العُماني في فكر السلطان

حمود الطوقي

على مَدَار السنوات الخمسة الماضية، أزور جمهورية تركيا بشكل مُنتظم، ومعظم زياراتي أتلقَّاها كدعوة صحفية لتغطية الفعاليات المختلفة، ولرُبما الزيارة التي لا يُمكن أن أنساها كانت عام 2015؛ حيث تلقيت دعوة من الجمعية العربية التركية للعلوم والثقافة -والتي يرأسها الصديق د. محمد العادل- وقد طلب مني تقديم ورقة عمل حول تأثير الدراما التركية على المتلقِّي الخليجي والعربي بصفة عامة، وقتها كانت تركيا تسعى لتعزيز التعاون الإعلامي والثقافي مع البدان العربية، وفعلا تمَّ تأسيس مُنتدى أُطْلِق عليه المنتدى الإعلامي العربي التركي، وكنت من الأعضاء المؤسسين لهذا المنتدى بمشاركة مُعظم الدول العربية وبدعم كبير من وزارة الإعلام التركية.

المنتدى لم يلقَ ذلك النجاح، ولكن ظلَّ الصديق الدكتور محمد العادل يَدْفَع بهذا المشروع بُغية منه في رسم خارطة الطريق للتعاون الفعَّال بين الإعلاميين الأتراك ونظرائهم من الوطن العربي.

الأمور أصبحت الآن أكثر صعوبة؛ حيث إنَّ الإعلام العربي أصبح يُعاني من التحديات، ولم يعد ميثاق الشرف الإعلامي مُفعَّلا كما كان، بل أصبح الإعلام العربي هشا ويعمل وفق أجندات لا تخدم قضايا مصيرية للأمة. لا أريد الخوض في هذا الموضوع المؤلم لأنه أصبح معروفا لدى الصغير قبل الكبير.

سأتحدث عن الإعلام العُماني الذي يُنظر إليه على أنه مُتوازن، ويعمل وفق رؤية واضحة، خاصة فيما يتعلق بالمواقف العُمانية الثابتة التي غرسها مولانا حضرة صاحب الجلالة -حفظه الله ورعاه- منذ توليه مقاليد الحكم في العام 1970، وأصبحتْ محل افتخار ليس فقط عندنا كعمانيين، بل عند غيرنا من أشقائنا وأصدقائنا الذين يرون أنَّ السياسة التي تنفرد بها وتنتهجها السلطنة تفرض احترامها وتقديرها؛ لأنها سياسة مبنية على ثوابت، وترتكز على قيم ومبادئ لا يُمكن بأي شكل من الأشكال التخلي عنها؛ لأنها ثوابت راسخة تترجم الفكر المستنير للنظرة الثاقبة لجلالته -أبقاه الله- والداعية لتحقيق السلم والتعايش ونشر المحبة بين الناس.

هكذا يَرَانا الغير؛ سواء خليجيًّا أو عربيًّا أو من أي قطر من العالم. لمست مدى رضا الناس عندما التقيت هنا بتركيا عددًا من الأخوة؛ سواء من دول مجلس التعاون أو من الدول العربية الأخرى، وما يُثلج الصدر أن هذه الثوابت كانت محور فخر وإشادة؛ فعمان اليوم أصبحت رمزًا للمحبة؛ فهي تنشر السلام وتنأى عن الفتن، وإعجاب الناس بالمواقف العُمانية الداعية للسلم والتعايش لم تأتِ من فراغ، بل جاءت بقناعة ومتابعة الإنجازات العُمانية على مختلف الصعد؛ حيث يعتبرون أنَّ النهج العماني فرض احترامه بين العالم أجمع.

استحضرتُ وأنا أكتب هذا المقال المقطع الذي انتشر خلال هذه الأيام، وكان حديث جلالة السلطان قابوس -حفظه الله- أثناء زيارته لجامعة السلطان قابوس، وخطابة الأبوي أمام الطلاب والأكاديميين، الذي وضح الفكر الذي تنتهجه عُمان؛ ليبقى الإعلام العُماني مُعتدلا؛ حيث أكد أنه لا يجوز بأي شكل من الأشكال مصادرة الفكر، وقال حفظه الله مُخاطبا أبناء شعبه: "لن نسمح بمصادرة الفكر أبدا".

من خلال هذا المنطق، تحرَّك الإعلام العُماني ليكسب ثقة العالم، وهذا ما شاهدناه من مواقف عُمانية، وهي تعمل بجد وإخلاص لتضييق الفجوة بين ما يحدث حاليا من شرخ في العلاقات على المستوى الرسمي أو الشعبي بين الأشقاء في دول الخليجبة ودولة قطر الشقيقة. سلطنة عُمان ومن خلال نظرتها وتحركها الدبلوماسي يهمها أن تعود العلاقات الخليجية كما كانت، والتحرك العُماني سيظل وسيكون فاعلا بإذن الله.

الثوابت الخليجبة لابد لها أن تستمر، فقد ظلت مُتماسكة طوال العقود الأربعة الماضية، وعلينا كشعوب خليجية أن نظلَّ مُتماسكين، ونترك لأهل السياسة يحلون القضايا دون أن تؤثر علينا وعلى علاقاتنا المتميزة.

نحن في عُمان نقدِّم دروسا للعالم، ويجب أن يتعلموا من مواقفنا الثابتة استنادًا لحُسن ظن أهل عُمان في رسول الله، عندما بَعَث إليهم يَدْعُوهم للإسلام فاستجابوا له طوعا دون حرب أو قتال.

نفتخرُ دائماً في عُمان بتمسكنا بالدين اﻹسلامي الحنيف، ومطلب الاجتهاد في تطبيقه، وأن الناس أجناس تتعدَّد آراؤهم وتختلف وجهات نظرهم دون تميز، فالتعايش والتسامح ورفع راية الوحدة بين المسلمين والحرص على وحدة الصف إحدى أهم القيم العمانية الأصيلة.

إنَّني في هذا المقال لا أنحاز لعُمان كوني عُمانيا؛ فكلُّ المؤشرات تؤكد أنَّ بلادنا -والحمد لله- دولة متميزة؛ لأنها رسمت خارطة طريق ومنهجا في التعاملات بأنَّنا لا نتدخل في شؤون غيرنا ما لم يُطلب منا التدخل رسميا، وأن لا ننجر وراء اﻷحداث.

هكذا نحن في عُمان تعلَّمنا نحب الوطن وكرامة المواطن، وأنَّ المخلص لله سيخلص لوطنه ودينه وعقيدته، وسينبذ جذور الفرقة والشقاق. ونجزم بأنَّ هذه المبادئ جعلتنا ننأى بأنفسنا عن الفتن والمشاكل؛ فقد تعلمنا من فكر جلالة السلطان أننا أبناء عُمان دولة واحدة وشعب واحد ودين واحد، لا ندَّعي الكمال، ولكننا حتما نتميَّز بأخلاقنا الممزوجة بالدين واﻷدب؛ فنحن نحب الكل ويحبنا الجميع؛ لأنَّنا وضعنا في الاعتبار أن المذهبية والطائفية ليسا الطريق نحو النجاح والفلاح، بل الدمار والهلاك.

هذه هي عُمان، وهذا هو شعبها الوفي الذى سلك منهجا بعيدا عن أية صراعات ونزاعات من أجل أن تبقى بلادنا ناصعة البياض.