علي كفيتان
في هذه الحياة تجدهم مشرئبُّو الأعناق يجنِّدون جلَّ أعمارهم وأموالهم وحتى أولادهم لخدمة الآخرين، وتبنِّي أفكارهم والدفاع عنها، ويعملون ليلَ نهارَ لتلميع الأخطاء وتورية الوجه القبيح، وإظهار الجانب المزيف منه فقط، وهذا السلوك غير السوي يعبِّر عن حالة مرضية عرَّفها بعض الأطباء وعلماء النفس في الغرب بـ"الإنسان الصفري" أي المغرم بتبني الأخطاء والترويج لها.
معروف لدى الجميع أنَّ اختراع الصفر خدم البشرية، خاصة لنا كعرب، فعدد من حروف العربية مُتشابه شكلاً لا يفصل بينها إلا ذلك الصفر العنيد الذي يتقلب بين جنبات الحروف والامر ذاته في أرقامنا الحسابية فبدون الصفر؛ لأصبحت لدينا تسعة أرقام فقط، وبالرغم من أن الصفر اختراع عربي -حسبما تشير عدد من الدراسات- لذلك اختاروا المكوث جنبه بعد عهد النهضة الإسلامية الأولى التي حملتْ مشعلَ العلم والتنوير إلى كافة ربوع الدنيا المظلمة آنذاك.
مرض الإنسان الصفري بدأ ينتشر ويغزو المجتمعات، ولا يوجد له علاج حتى الساعة، ومثلما يبيِّن من اكتشفوه أنَّ الإنسان يُصاب بالجنوح النفسي لتصرفات كانت هي أحد أحلام صباه التي لم يحققها، ولم يمتلك الشجاعة ليمنح نفسه الثقة والأمل لتحقيقها؛ لذلك ينجذب لشخص آخر يراه أكثر ثباتا في حياته ويجند نفسه لا إراديا لخدمته، وبالرغم من كل خدماته الجليلة التي لا يطلب عليها أجرا، نجد أن هذا القرين يستدعيه للتلذذ بالضحك أحياناً بعد جهد بدني وفكري عميق، ولا مانع من جلب آخرين ليتفرجوا على الإنسان الصفري وهو يهدر أحيانا، ويستكين في أحيان أخرى، ويتقبل منه صاحب المكانة الرفيعة التطاول عليه في بعض الإحيان، فهذا جزء من المشهد فقط؛ لأنَّه في نهاية الجلسة الهزلية تكفيه مسحة على مؤخرة رقبته للهدوء والدعة، والعودة بكل تفانٍ لخدماته المجانية الجليلة.
الإنسان الصفري يضع كل الأصفار التي بحوزته في الجانب الخطأ، فهو دائماً يجمعها على شمال الأرقام الصحية، وهذا لا يمنحها أيَّ قيمة تمكِّنه من البناء عليها؛ لذلك تجده جالساً بالقرب من صاحبه ولا يتحمَّل البُعد عنه، في بعض الأحيان يحاول ولكنه سرعان ما يعود؛ كونه لا يملك رصيداً في العلاقات الإنسانية غير ذلك الصفر الذي يحمله على كتفيه اللذين أنهكهما الزمن من ثقل المحمول، كم يستمتع جلساؤه الصامتون بتفننه في نسج القصص الخيالية المحكمة التي ينسب فيها لنفسه كل نجاح، فهو شخصه لا تفوته مناسبة عامة وخاصةً التي تتعلق بالجاه الاجتماعي يختار لباساً أنيقاً ولا تكتمل الصورة الصفرية إلا بالحصول على سيارة جديدة لكي يعظم ذاته المنهارة، لن يمكُث كثيراً ولن يأخُذ ويعطِي إلا إذا كان قرينه البشري في الجوار؛ فهو من يرحب به في العامة ويمجده ويناديه ليربض بجانبه مستكينا ولا مانع أن يميل براسه إلى أذن صاحبه أحياناً، ثم يعود بابتسامة غامضة رغم أنَّ الآخر لم يكلمه ولم يمنحه شعورا يوحي بالسرور، ولكنها أداه من أدواته لتبيان أهميته المفقودة، ها كذا أوضحت الدراسات العلمية لهذا المرض.
ومن ضِمْن التجارب التي أُجريت على هذا الكائن الصفري في دول غربية منح بعظهم وظائف إشراقية؛ حيث تم تكليف أحد الوكلاء العسكريين من المصابين بهذا الجنوح السلوكي بمهمة الإشراف على نادي ضباط الصف بوحدته، تقول الدراسة إنَّ المذكور استأسد بشكل غير مسبوق، وأصبح يعلو صوته على الطباخين والنادلين يوبِّخهم بشكل دائم ويتواجد بشكل مستمر بين المطبخ وقاعة الطعام، فيتذوق الطعام مِرَارا وتكرار ويتنقل بين الطاولات في قاعة الطعام مزهوا بوظيفته الجديدة، وحسب الدراسة فإنَّ هذا الرجل خلق قلقاً كبيراً لدى الطباخين، وأصبح العساكر لا يفضلون الحضور لقاعة الطعام مما أثر على طبيعة العمل بشكل مباشر.
كما بيَّنتْ تجربة أخرى ركزت على العاملين في القطاع المدني عن طريق توظيف صفري آخر في وظيفة إدارية عليا، فأول ما قام به هو تنميق مكتبه بالزخارف واللوحات الحائطية، وتوظيف عدد غير مسبوق في مكتب السكرتارية، كما قام باستحداث باب خلفي للمكتب، وكانت أوَّل مهمات العمل التي منحها جل اهتمامه هي حصر عدد المركبات وركنها جميعا في موقف المؤسسة، وفي كل صباح يقبع في المدخل وبجانبه كشف الحضور والانصراف، وفي أول قراراته أزاح كل الكفاءات المشهود لها بالعمل المهني، ودفع بآخرين من حديثي العهد بتلك المسؤوليات، مُبرِّرا ذلك بأنه يرغب في تجديد الدماء، ولكن جنوحه كان للموظفين الذين يشاركونه النظرية الصفرية؛ لذلك لم تجنِ تلك المؤسسة إلا مزيدا من الأصفار في نهاية العام حسب الدراسة.
نعتقد أنَّ هذا المرض خطير وانتشاره أصبح لافتًا في المجتمعات العربية والافريقية، وأننا في هذا الوطن المعطاء بأهله المخلصين ما زلنا نتمسك بالثوابت التي انتهجها سلطاننا المفدى -حفظه الله وَشَافَاه- لبناء مجتمع إيجابي يهتم بتعظيم الإنجازات ويعمل على تطويرها وتنميتها، ويضع كل تلك الجهود الكبيرة وتلك التضحيات العظيمة التي استمرت لقرابة نصف القرن من الزمن، بعيدا عن الصفر القابع على الشمال.
حفظ الله عُمان، وأدام على جلالة السُّلطان الصحة والسلامة والعمر المديد.
alikafetan@gmail.com