النموذج الاقتصادي الأمريكي

حاتم الطائي

عَدِيْدَة هي السياسات الاقتصاديَّة الهادِفَة لبناء قواعد صَلْبَة للتنمية المستدامة؛ ظلَّتْ جميعها محطَّ اهتمام؛ سواءً للبحث عن مواطن قوَّتها واستحضار نجاعة تجربتها، أو تفنيدًا لمواضع الضَّعف فيها والتي أدَّت لأزمات وصلتْ حدَّ الكوارث.. وَبَيْن هذه وتلك، يظلُّ النموذج الأمريكي القائم على مفهوم الاقتصاد الحر واحدًا من النماذج التنموية الأفضل، رغم سلبياته والنقد الموجَّه إليه، بل والأزمات العنيفة التي يمرُّ بها. ولا أعني هنا أفضلية آلية العمل والنتائج، بقَدْر الفِكْرَة بحد ذاتها، والتشريعات والقوانين المنظِّمة لها، كنظام يُشجِّع على حُرية ومرونة انتقال رأس المال والقوى العاملة. وما يُدلل على صَوابيَّة النظرية، أنها لمَّا طُبِّقت في بيئات عمل أكثر نزاهة عن السوق الأمريكية، أثبتتْ نجاحات واسعة، خصوصاً في دول أوروبا الشرقية، والنمور الآسيوية، بل حتى التنين الصيني الذي تخلَّى عن نموذجه الشيوعي الكلاسيكي القائم على الاقتصاد المخطَّط المركزي، وانتهج في الثمانينيات -تحت قيادة دينج شياو بينج- بعضًا من موجِّهات النموذج الأمريكي بتبنِّي النهج الإصلاحي، فانتقلت بكين إلى الاقتصاد المختلط الموجَّه نحو السوق، لتصبح اليوم ثاني أكبر اقتصاد عالمي.

إنَّها باختصار نَهْج اقتصاد السوق، أو الاقتصاد الحر، كسياسة إنمائية تسمح للأفراد والقطاعات بالقيام بأي نشاط اقتصادي، وافتتاح أي مشروع، دون تدخل الدولة أو أجهزتها بذلك سوى بالتشريع والرقابة وإيجاد بيئة عمل صحيَّة تكفل ضمانات يُمكن للسوق وفقها أنْ يضبط نفسه بنفسه.. ولا يعني ذلك غياب دور الدولة بسلطتيها التنفيذية والرقابية عن الواقع الاقتصادي غيابًا كليًّا، وإنما الفكرة توزيع الأدوار بالشكل الذي ينبغي أن تكون عليه؛ فالدولة تضع القوانين والتشريعات عبر مُؤسساتها التشريعية (البرلمان)، والقطاع الخاص بمؤسساته الكبيرة والمتوسطة والصغيرة يُمكَّن في مساحات مُساهَمَة أوْسَع في عملية البناء بـ"حُرية منضبطة"، ويُتاح مزيد من الفرص أمام مؤسسات القطاع المدني من أجل تفعيل مبدأ الشراكة، والمواطن كشريك وهدف تنموي في آن يتحمَّل مسؤولياته الوطنية من خلال مبادرات وإسهامات أعظم نفعًا وأكبر أثرًا.. وحال تحقُّق ذلك، تزيد تلقائيًّا كفاءة السوق، نتيجة وجود منافسة حقيقية وعادلة وبناءة.

وإذا ما قارنَّا النتائج المتحقَّقة على مَدَى عقود للاقتصاد الأمريكي الأكثر حرية، والاقتصاد الأوروبي المقيَّد بتدخل الدَّولة، يُمكننا أنَّ نلمس حَجْم النجاح الأعلى الذي حققه الأمريكيون في النمو ومستوى المعيشة وتنويع الإنتاج، رغم الأزمات القاسية التي أصابت بلادهم، بينما الأنظمة الأوروبية السخية أكثر في رعايتها للمواطن والباحثين عن العمل لم تستطع أن تضارع تقدُّم واشنطن في هذا المضمار، والسببُ في ذلك القيود التي تُلجم الشركات كثيراً وقواعدها وإجراءاتها فيما يخص العمل والاستثمار والضرائب...وغيرها، فكلما زادت القيود وتدخُّل الدولة أكثر في الاقتصاد، تعرقلتْ عملية العرض والطلب وتعثَّر النمو، وهي مُسلَّمة اقتصادية لا يختلف عليها اثنان.

إذن؛ النموذج الأمريكي كنظرية هو مثالٌ واضحٌ على أنَّ اكتمال وتكاملية العلاقة بين أضلاع العمل الأربعة -الحكومة، والقطاع الخاص، والمجتمع المدني، والأفراد- في بيئة داعِمة ومحفزة للأعمال، من شأنه أن يُسهم بنمو اقتصادي كبير؛ وأنَّ الاعتماد على مصادر أحادية سواءً موارد، أو وضع الأمر برمَّته في يد الدولة وعدد محدود من الشركات العِمْلاقة، على حساب كَثْرة وقوَّة مؤسسات القطاع الخاص والمجتمع المدني، يُعتبر خطراً بحد ذاته؛ فكوريا الجنوبية مثلا لديها اقتصاد قوي، لكنه يعتمد على عدد محدود من الشركات الكبيرة مثل: LG، وسامسونج، فإذا تعرَّضت أيٍّ منها لخسائر لأي سبب، بالتأكيد سيصعب على الاقتصاد الكوري التعامل مع هذا التحدي.

إنَّ مفهوم الشراكة المجتمعية الحقيقية في البناء يبدو جليًّا في نهج الاقتصاد الحر؛ حيث تُتَاح الفرصة للجميع للمنافسة بشكل عادل، قطاعًا خاصًّا بمؤسساته الكبيرة والصغيرة والمتوسطة، والمجتمع المدني، والمواطنين، الجميع يتنافس وفق فرص مُتكافئة.. أقول ذلك ونحن مُقبلون على تحديات جديدة -كحال عديد من دول العالم- مما يتوجَّب معه دراسة كافة التجارب من حولنا، وليس الاكتفاء باستقاء تجربة مُعينة من دولة مُحدَّدة؛ بل ودراسة حتى التجارب الفاشلة قبل الناجحة؛ لاستخلاص العِبَر والأفكار التي تساعدنا على بناء النظام الأنسب لنا والأكثر واقعية وقابلية للنجاح.

نِظَام يُهيئ لتذليل كافة التحديات التي تُواجه تطوير القطاع الخاص المبادر؛ بما يضمن مُساهمته في تشكيل قيمة مُضافة لاقتصادنا الوطني؛ فلو تأملنا دور القطاع الخاص لدينا بشكل عام، سنجد أنَّه -ونتيجة لعقبات عدَّة- انحصرت نشاطاته في إطار الاقتصاد الريعي والورقي وليس الإنتاجي؛ وهو أمرٌ يحتاج دراسة متعمِّقة تُسهم في صياغة وإعداد خطط وإستراتيجيات تضع هذا القطاع ضمن خطوط إنتاجية قادرة على تحقيق الاستدامة، لبناء اقتصاد متين يقوم على التنويع والمنافسة، وهذا لن يتأتى دون إعادة تشكيل هذا القطاع، واستيعابه ضمن مخطط شامل يندرج تحت إستراتيجية أشمل للتنويع.. وبالتوازي مع ذلك، تتنامى ضرورة إيلاء اهتمام أكبر لمؤسسات المجتمع المدني؛ لضمان انخراطها في مهام وبرامج التنمية؛ لتصبح شريكا حقيقيًّا يُستفاد من مواردها البشرية والمادية وخبراتها التي تكتنزها.

إنَّ سياسات الاقتصاد الحر من المؤكَّد أنها ليست الحل الوحيد بحد ذاته الذي يُمكنه مُعالجة كل المشكلات الآنية، وإنما على أقل تقدير هو بمثابة صِمَام أمان يُخفف حجم التداعيات، ما لم يكن الطريق الأكثر أمانًا للخروج دون خسائر.. فلا نزال بحاجة لمزيد من العمل الجاد لتطوير القطاع الخاص العُماني؛ فالتطلعات أكبر بكثير مما يحدث على الأرض، خصوصاً فيما يتعلق بخطط التمكين والتأهيل والشَّراكات الثنائية ومتعددة الأطراف؛ لإحداث وَفْرَة في الأوعية الاستثمارية تكافئ الاستحقاقات التنموية المقبلة.