نحو مفاهيم أكثر انفتاحاً

الواجبات الصغيرة بديلاً عن الشعارات الكبيرة

 

 

د. صالح الفهدي

 

قد لا يعرفُ الفلاّحُ أن البذورَ الصغيرةَ التي ينثرها في حقلهِ، تصبُّ في سيادةِ وطنهِ، وتُسهمُ في بناءِ عزّتهِ، وترفدُ حريّتهُ، واستقلاله؛ ذلك لأنّها تؤمِّنُ الغذاءِ، فإن وصلَ ذلك إلى مستوى الإكتفاءِ الذاتي للوطنِ فإنِّه يعني عدم اعتمادِ وطنهِ على غيرهِ لاستيرادِ الغذاءِ، الأمر الذي يعني أنه سيكونُ مقيّداً بشروطٍ ما قد تخلُّ باستقرارهِ الاجتماعي، وتفرضُ عليه تنازلاتٍ معيّنة.

وقد لا يعي ذلك الذي يدّخرُ ريالاً واحداً أنّ هذا الريالُ قد يُسهمُ في عزّةِ وإباءِ وطنهِ؛ ذلك لأنّ الادخارَ الشخصي يُساعدُ الحكومةَ إن هي احتاجت للاقتراض أن تلجأ إلى الاقتراضِ الداخلي بدلاً من اللجوء إلى الاقتراض الخارجي من مؤسسات عالمية كبنك النقد الدولي الذي سيفرضُ عليها شروطاً ظاهرها اقتصادي وباطنها سياسي تضرُّ بسيادة الأوطان، وتضعفُ من قدرها ومكانتها وتزعزع كيانها.

وقد لا يرتقي الموظف البسيطُ إلى الإدراكِ بأن استثماره كل دقيقةٍ من دقائق عملهِ يعني الإسهام بتنمية وطنه بأكمله..! الموظفُ في عمله كالصامولةِ في الماكينةِ الهائلة الحجم، إن هي انكسرت، تعطّل عمل الماكينة كاملاً.

الواجباتُ الصغيرةُ إذن هي التي تبني الحضارة والتاريخ فـ"كثرُ السيولِ من النقط" وفي هذا المعنى يقول الفيلسوف مالك بن نبي في كتابه "وجهة العالم الإسلامي": " إنّ التاريخ لا يبدأ من مرحلة الحقوق، بل من مرحلة الواجبات المتواضعة في أبسط معنى للكلمة، والواجبات الخاصة بكل يوم، بكل ساعة، بكل لحظة، لا في معناها المعقَّد كما يعقِّده أولئك الذين يعطلون جهود البناء اليومي بكلمات جوفاء وشعارات كاذبة، يعطلون بها التاريخ بدعوى أنّهم ينتظرون المعجزات والساعات الخطيرة".

الاستراتيجيات العظمى لا يمكنُ لها أن تنجح ما لم تؤدِّ واجباتها الصغيرة المتعلقة بها، تلك الواجبات التي تعانقُ الواقع، وتلامسُ الميادين، فإن تعطّل عاملٌ بسيط يقودُ رافعة الحاويات، تعطّل الميناءُ وتأخرت السفينةُ عن موعدها المقرر لإفراغ الحاويات..! وإن تعطّلت سيارةٌ إسعافٍ أو إطفاءٍ بسبب عطل بسيطٍ جداً كانت الخسارات فادحة..! وإن تعطّلت صيّاد بسيط في البحر، أضرّ تأخره بأسرٍ عديدة..! وهكذا كل شيءٍ يبدأ من الواجبات الصغيرة..!

واحدةٌ من أكبر إشكالياتنا التي وقعنا فيها هي إشكالية "الكلام الكبير" وقد تحدّثت عنها في كتابي "نقد الحال الرّاهن" وتعني أننا نتقنُ فنّ الكلام الكبير الذي يستخدم العبارات الطنّانةِ والجملِ الرنّانة، لهذا فإننا لا نرى ما هو ملموس في علاجاتنا لكثيرٍ من المشكلات أو بناءِ التوجهات لأن الكلام العظيم لا يمكنُ بلورتهُ على الأرضِ إلاّ بتفكيكهِ إلى "واجبات صغيرة"..!

ذكرَ مقال منشور في مجلة Forbes "أنه قبل أكثر من ثلاثين عاماً قررت الخطوط الأميركية "أميريكان إيرلانز" خصم حبةً زيتون من كل طبق، فاكتشفت أنّها وفّرت مبلغ 40 ألف دولار..! ولا يكاد المرءُ يصدّقُ أن حبّة زيتونٍ واحدةٍ توفر هذا الكم من المال إلا إن كان صاحب بعدٍ في النظر، وعمق في الرؤية..!

هذا الذي نقعُ فيه نحن الأفرادُ وأقربُ مثلٍ عليه الكميات الكبيرة من مخلفات الغذاء التي تُلقى في القمامات..! تسمعُ من الناسِ غلاءِ أسعار السلع ولا تكادُ تسمعُ منهم كيف يمكنهم تقليص استهلاك الغذاء، تناقضٌ غريب..!

أمّا الإشكاليات التي تقعُ فيها بعض الأوطانِ فهي أنها تفكّر بالمشاريع الكبرى وتنفق عليها الموازنات الهائلة، لكنها حين تأتي إلى الواجبات الصغيرة ومنها تأهيل الكفاءات لتدير لاحقاً هذه المشاريع تبخلُ على إعدادهم مالياً، وتديرُ ظهرها أمام تأهيلهم الإداري والفني فتضيع الأموال الضخمة والمشاريع الكبيرة لأنه تمّ الإخلال بالواجبات الصغيرة...!

سألتُ أحد كبار المسؤولين عن فاعلية رؤية وطنية فقال: الإشكالية ليست في الرؤية وإنما في التنفيذ..! نعم هذا ما يحدثُ إذ تعقدُ الندوات والمؤتمرات والقمم فتصاغ السياسات من قبل خبراءٍ إمّا أنهم ينقلون تجاربَ بلدانٍ أُخرى، أو لا يعرفون طبيعة البلد الذي يقترحون عليه تلك السياسات، أو أنه لا أحد يكترث بتطبيق ومتابعة الخطوات العملية للسياسات التي وضعوها..!

في إحدى الجهات الخدمية جمعني لقاءٌ بعددٍ من المديرين، وأوضحوا لي في سياق الحديثِ ما هو بصدده من تغيرات، وكانت كلّها على نحو "الكلام الكبير"..! فعقّبتُ قائلاً: سأقولُ لكم ثلاثةَ أشياءِ هي أولى للنظرِ إليها وهي أولاً: سلبيةُ موظفيكمُ خاصّة المفتشينَ منهم، أولئك الذين يضعون في اعتباراتهم تصيدّ كل ما يعيق المشاريع الوليدة، ثانياً: عدم تقديرهم للوقتِ، واستخفافهم بطالب المصلحة الذي يظنون أنفسهم أصحاب منّةٍ عليه، ثالثاً: أنّ بداية المشاريع لا تبدأ بالشروط الغائمة التي تسطّرونها في ورقة، وإنّما بوقوفكم على الأرضِ ونظركم في الموقع إن كان صالحاً أم غير صالح للمشروع...! أجابني أحدهم: والله لم نفكر في هذه النقاط خاصة الأخيرة منها..!

نعم يغيبُ التفكير في مجتمعتنا لأننا نفكّر في الإستراتيجيات الكبرى، والتخطيط الاستراتيجي، والرؤية الوطنية العامة، وقليلاً ما نفكّر في "الواجبات الصغيرة" التي قال فيها أحد المفكرين حين سأل عن الحضارة فأجاب: الحضارة هي أداء الواجبات الصغيرة..!  

فإن نحن أولينا اهتماماً لأداء الواجبات الصغيرة فلن يتعطّل مراجعٌ لخدمة، ولن يتردّد أياماً على مصلحةٍ من المصالح..

إن نحن أولينا اهتماماً لأداء الواجبات الصغيرة فلن يضيّع موظف وقته في استخدام هاتفه الخاص، وإضاعة الوقت في هذر الكلام ولغوهِ ..

إن نحن أولينا اهتماماً لأداء الواجبات الصغيرة فسننشئ جيلاً لا يعيشُ على أحلام اليقظة وإنّما يشمّرُ عن ساعديه ويعملُ في كل مهنةٍ شريفةٍ وإن كانت متواضعة..

إن نحن أولينا اهتماماً لأداء الواجبات الصغيرة فلن ننتظر التغيرات الضخمة، والفرص العظيمة التي ستأتينا بالحظوظ الكبرى بل نصنعُ أهدافاً وإن كانت صغيرةً نقتربُ إليها كل يوم بعزيمةٍ وصبرٍ وإصرار..

إنّ جعجعات بعض الناس لا تقنعني في شيء، إذ أنني من الواقعيين الذين يرون مصداق كل فكرة هي ميدان العمل، يقول مالك بن نبي في كتابه "مشكلة الثقافة": " "إن الذي ينقص المسلم ليس منطق الفكرة، ولكن منطق العمل والحركة، وهو لا يفكر ليعمل بل ليقول كلاماً مٌجرداً، بل إنه أكثر من ذلك يبغض أولئك الذين يفكرون تفكيراً مؤثراً".. لهذا أقولُ دائماً".
لا تحدّثني كثيراً عن أفكارك المجرّدةِ التي لا تنتهي ولكن بدلاً من ذلك دعني أراها ماثلةً على الأرض لتثبتَ فاعليتها من عدمها".