خلفان الطوقي
اتصل بي أكثر من مسؤول حكومي، وبعض الأحيان يكون في أعلى الهرم الإداري في الجهة التي يمثلها؛ ليناقشني في إحدى المقالات التي كتبتها أو ليطلب رأيي في موضوع معين، وما إن يرحب بي ويدعوني للجلوس، إلا ويبدأ في إلقاء محاضرة مطولة ومكررة ومستهلكة، أو يدافع عن الجهة الحكومية التي يمثلها بشكل مستميت ليوصل لي رسالة بأنّ جهتنا هي الأفضل، وأنّ الناس والمراجعين لا يقدرون عملنا، وتبقى هذه مشكلتهم وليست مشكلتنا.
بعد انتهاء المحاضرة وأرى أنّ هدف اللقاء هو المحاضرة وسماع صوته فقط، اطلب الاستئذان بكل ذوق وأدب، وتزيد قناعتي الشخصية بأنّ القادم أصعب بكثير مما نتوقع إن استمر مثل هؤلاء في المناصب لمدد أطول، وأقول في نفسي، هل مثل هؤلاء هم من سيقود الدفة؟ هل ما زالت هناك عينة من البشر تعيش في قرن الحداثة والعولمة والتقدم التكنولوجي وتتصرف وكأنها مازلت تعيش في زمن الصوت العالي الواحد والرأي الديكتاتوري الأوحد، قوته في علو صوته، ميزته تكمن في استحواذه على مجريات الحديث واسترساله إلى أن يفقد الطرف الآخر نشوة النقاش والحوار، ذكاؤه في وقاحته، وتوبيخه لدرجة الإهانة لمعارضيه من الموظفين أو المراجعين أو المستشارين.
المسؤول الذي لا يسمع إلا صوته لا يُحدِث ضررًا بسيطا؛ فضرره مستمر وعلى نطاق واسع، فهو يتّسم بالانفعالية عند المواجهة، والاستبداد برأيه، ويخسر الكثير من الأفكار والجهود والخبرات من زملائه ومساعديه ومستشاريه، فيتحوّل المحيطون به إلى أناس لا يعرفون إلا كلمة واحدة وهي (سمعا وطاعة)، ومع مرور الوقت يفقدون خبراتهم ومعارفهم؛ بل ويفقدون نشوة الإنتاجية والإنجاز كي لا يعرضوا حياتهم الوظيفية لمخاطر التهميش أو التنكيل، فليس كل الموظفين أقوياء بما فيه الكفاية أو لديهم النفس الطويل للمحاكم وتبعاتها وتعقيداتها.
خسارة المسؤول الشخصية وشعبيته لا تعنينا، فخسارته التي تخصنا هي تأثير هذا العيب (لا يسمع إلا صوته) على نطاق الدولة، وبسبب عدم سماع هذا المسؤول إلا صوته فإنّ تأثير ذلك سوف ينعكس على مستوى الإنتاجية وخسارة الأموال المستثمرة في بعض الكفاءات المنتجة، والتي كانت ترغب في العطاء وإثبات الذات، وتحولها بمرور الزمن وبسبب طول فترة بقاء هذا المسؤول في منصبه إلى عبء إضافي على الدولة وإلى مزيد من تراكم الاتكاليّة وعدم المبالاة في العديد من الموظفين.
كل ذلك وتلقائيا سيؤثر على القطاع بالبطء الشديد وبالبيروقراطية الطويلة التي تمثله بسبب تسلط المسؤول في كل شاردة وواردة وعدم ثقته أو عدم تعاون الآخرين معه؛ لمعرفتهم المسبقة بأنّ جهدهم وفكرهم ومعارفهم وخبراتهم هي ليست محل تقدير من الطرف الآخر، لذلك يفضلون الاحتفاظ بها إلى أن تندثر مع الأيام، وما ينطبق على الوضع الداخلي للجهة الحكومية، فإنّه يشمل العاملين في القطاع من خارج الجهة الحكومية من تجار وموردين ومستفيدين، وبسبب مصالحهم فقد تجدهم يلتزمون الصمت كي لا يكونوا في دائرة الضوء، ويتم التعامل معهم بشكل شخصي وتتعطل مصالحهم.
العيب الجيني أو الشخصي للمسؤول قد يكون بسيطا ويُغتفر، ويمكن أن يعالج أو بعض الإنجازات السريعة قد تغطي على هذا العيب، وبعض العيوب أو المساوي تعتبر كارثية وآثارها طويلة المدى، فبالإضافة إلى الآثار التي أوضحتها أعلاه، هناك أثر عميق ولا يلتئم بسهولة وهو مساهمة هذا المسؤول في تعميق الفجوة بين الحكومة والمواطن.
تمر المنطقة بمنعطف خطير ومفصلي، ومثل هؤلاء المسؤولين يضعوننا في الزاوية الصعبة التي تزيد وضع البلد خطورة وانحدارًا بسبب قناعاتهم الراسخة بأنهم الأفضل والأفهم والأخبر والأعلم، ولا يجدون من يخبرهم أنّهم الأصعب مِراسا في تقبل لغة العصر في الحوار والمناقشة والرأي والرأي الآخر، وأن العصر تغير، وعليهم أن يتغيّروا ليس من أجل أنفسهم بل من أجل الوظيفة التي يمثلونها والقطاع الذي ينتظر منهم مرونة التشريعات والقوانين والرؤى التي تتناسب مع المتغيّرات السريعة والمتطلبات الدولية لتكون بلدنا جزءا من الركب العالمي المتطور.