حتى لا ننسى الباحثين عن عمل

د. عبدالله باحجاج

جاء شهرُ رمضان المبارك، وتفجَّرت فيه -وتحديدا في العاشر منه- أزمة الأشقاء في الخليج، وشغلت كلَّ العواصم: شعوبا وأنظمة، بل حتى الحجر والشجر؛ فتراجعت -بل اختفت- اهتماماتنا بقضايانا الداخلية الملحَّة؛ لعلَّ أبرزها قضية الباحثين عن عمل، التي تحتل الصدارة الأولى من حيث أولويتها؛ كونها تشكِّل ضغطًا متقدِّما على مرحلتنا الوطنية، ولا ينبغي أن يشغلنا عنها أيُّ اهتمام آخر مَهْما كانت حدَّتُه الإقليمية، لربما يتقاطع الشأنان الداخلي والخارجي في مرحلة المخاطر الجيوسياسية الإقليمية المقبلة.

فهناك فعلا مخاطر جيوسياسية مقبلة -سنتناولها في مقال مقبل- وبالتالي لا ينبغي أن يشغلنا أي شأن عن هذه القضية، حصريًّا، مهما كان عدد الباحثين عن عمل، فكيف إذا كنا نعاني من أزمة تراكم أعدادهم سنويًّا. ومن هنا، ندعو إلى إعادة الاهتمام الجديد بهذه القضية الوطنية التي لا تؤجَّل؛ فهناك آلاف من فئة الشباب قد دخلوا في أتون الفراغ القاتل، المدمِّر للسلوكيات والقيم، والمؤدِّى إلى مشكلات اجتماعية وأمنية، والفاتح لأسوأ الاحتمالات السياسية، وقلنا في مقال سابق إنَّ وجودَ باحثٍ واحدٍ يائسٍ عن العمل يعني أسرة كاملة يائسة، ووجود أسرة يائسة، ينسحب تلقائيًّا على أسر داخل القبيلة والأسر المجاورة؛ مما قد ينتج لنا اليأس داخل المجتمع.

مرحلتُنا الوطنية الراهنة ببعديها الإقليمي والعالمي، لن تتحمَّل انتشار اليأس، وتغلغله في البنية الاجتماعية، وليست هذه المخاطر التي تقف وراء إعادة فتح هذا الملف رغم أنها تُشكِّل وحدها سببا كافياً، ومبررا؛ فالسبب يعود لخبر قرأناه في منتصف شهر رمضان المبارك عن مخرجات مؤسسات التعليم العالي في بلادنا للعام 2016 أي العام الماضي، وقد بلغت 23163 خريجا وخريجة. هذه الآلاف الجديدة تنضم لقافلة الباحثين عن عمل، ومعظمهم من فئة الشباب، وهنا تبرز لنا قضية التراكم العددي من جهة، وتفند لنا بوضوح حقيقة إحصائية رسمية تحصر عدد الباحثين في 42 ألفا فقط، وهذه إحصائية كنا في مقالات سابقة قد شكَّكنا في دقَّتها، وفي حصرها للباحثين النشطين فقط، أي أولئك الذين يحدثون بياناتهم في سجل القوى العاملة كل ثلاثة أشهر، وهناك أعداد كبيرة لا تُحدِّث، وأعداد كبيرة أخرى من حَمَلة الدبلوم العام (الثانوية العامة) تعزف عن التسجيل.

الإحصائية الرسمية تنقصها الدقة، وحتى في حالة التسليم بها، فإنَّ سياسة التوظيف أو التشغيل، لا تتناغم مع جعل أعداد الباحثين في بلادنا في حدودها الطبيعية الآمنة والمطمئنة سنويًّا، فبند التوظيف أو التشغيل في موازنتنا السنوية محصور في التربية والصحة، واتباع سياسة التعمين المتدرج. أما في القطاع الخاص، فإن الحكومة تأمل في أن يوفر هذا القطاع ما بين (12-13) ألف فرصة عمل خلال العام الحالي.

لكن، كيف؟ وهل الواقع يسير وفق ما هو مخطط له خاصة في القطاع الخاص؟ وهل في حدوده الآمنة؟ وفي الجزء الآخر من الصورة، لا يزال أكثر من 30% من العمانيين العاملين في القطاع الخاص المؤمن عليهم، تتراوح معاشاتهم الشهرية ما بين 325-400 ريال شهريا وعددهم في حدود 64 ألفا، بينما معظم الأجور فيه تبلغ ما بين 400-600 ريال، فيما لا يزال العُمانيون في الإدارات السفلى، والأجانب في الأعمال والوظائف الرائدة.

وحتى نستكمل أجزاءَ الصورة الكاشفة عن ماهية واقعنا الاجتماعي، لابد هنا من استدعاء عدد العُمانيين الذين يتقاضون مُستحقات من الضمان الاجتماعي، وبيان أوضاعهم حتى ندلل على أهمية قضية الباحثين عن العمل، وعمق تأزماتها النفسية والمعيشة للآلاف من الأسر، فآخر الإحصائيات الرسمية تشير إلى أن هناك 81 ألفا و942 حالة مستفيدة من الضمان الاجتماعي بنهاية العام 2016، ودراسة أخرى تفيد بأن 93% منها لا يكفيها معاش الضمان.

ومن رَحِم تلكم الخلفيات الشمولية، ينبثق لنا البُعد الإستراتيجي الوطني لقضية الباحثين عن عمل، وهذا يعني أننا لا ينبغي أن ننظر للقضية بمعزل عن تلك الشمولية؛ فإيجاد عمل للباحث، سيساعد كثيرا في تحسين مستوى المعيشة للأسر، والعكس صحيح.

ومن تلكم الاعتبارات، تعتبر قضية التوظيف/التشغيل أولوية وطنية، تحتم الآن اتباع أسلوبين عاجلين؛ هما: تشكيل جهاز من كفاءات متخصصة في كل المجالات ومن قطاعات مختلفة، مشهود لها بالنزاهة والصدقية والمصداقية، وغير محسوبة على اللوبيات، تقوم بعملية تقييم الواقع المنجز حتى الآن، وتقدم مرئياتها للحل، والآخر: إنعاش قطاع التوظيف في القطاعين العام والخاص بمرئيات موضوعية، وغير نمطية، خاصة وأنَّ هناك أكثر من 60 شركة حكومية و26 شركة نفط أجنبية، يمكن أن تستوعب أعداد الباحثين، لكنَّ العِلَّة تكمُن في رؤسائها التنفيذين الذين جل همهم الاحتفاظ برواتبهم الشهرية الخيالية والامتيازات الأخرى مع بقاء منظومتهم الإدارية المغلقة على حساب قضية الوطن الأولى "التوظيف". وللأسف، فهم يشعرون بأنهم غير معنيين بهذه القضية؛ لذلك نراهم رغم المشاريع التوسعية التي تنتجها مشاريعهم الأم، إلا أنَّ اهتمامهم دون المستوى بقضية التوظيف والتشغيل، رغم ما يمكن أن توفره مشاريعهم الجديدة من فرص عمل كثيرة، ومتعددة التخصُّصات.

قضية التوظيف والتشغيل في بلادنا تحتاج إلى أطر وكوادر وأجهزة جديدة، تخرُج من رحم ثقافة جديدة، تُغلِّب الوطنية والوعي بمستقبل تداعيات هذه القضية، والوعي بأنَّها أصبحت الآن كعائق ينبغي تجاوزه، وأنه بالإمكان تجاوزه، لكن ليس بالأفكار والعقليات الراهنة المستهلكة، إمَّا بحكم تقادم الزمن عليها، أو نتيجة اختيارها من رحم اللوبيات، وتشبَّعت بثقافة المظهرية والانتفاع من اللجان والمجالس العمومية. ولو ظلت كما هى عليه، فلن يتحرك ملف التوظيف/التشغيل كما يجب فعليًّا، كما هو حاليا.. والموضوع له تتمة استقصائية.