بين السيولوجيا وعلم الاجتماع : تمثل هشّ لعلم المجتمع

 

عبد الفتاح الزين

أتواصل عبر الإنترنيت ومختلف الوسائط الاجتماعية مع عدد من الأصدقاء والإخوة العمانيين وغيرهم، وأتابع ما يجري وينشر هناك منذ عودتي إلى المغرب وكأنني لا زلت مقيما بالخوير، وهذا من حسنات الثورة الإلكترونية والرقمية.

وتوصلت مؤخرا بنسخة رقمية من الملحق الشهريمراجعاتلشهررمضان 1438 هـ الموافق مايو 2017م، والذي تصدره وزارة الأوقاف والشؤون الدينية بالسلطنة بالتعاون مع جريدة الرؤيا. وبعد تصفحه، أثار انتباهي نص يحمل عنوان "ثورة علم الاجتماع لمارك جولي" ، وكانت قراءة للكتاب من طرف كاتب مغربيألا وهو الأستاذ سعيد بوكرامي. اعتقدت خلال قراءته أن الأمر يتعلق بأحد السوسيولوجيين المغاربة، فأردت التعرف عليه لأنني أكاد أعرف غالبية المشتغلين في الميدان من الجامعيين ومن يدور في فلكهم. فاعتقدت أن الأمر يتعلق بباحث شاب، لكن بعد بحث على الشبكة العنكبوتية، تبيّن لي أن الأمر يتعلق بقارئ غير متخصص في السوسيولوجيا إنه كاتب  ومترجم ! وهذا لا يعيبه ما دامت قراءة الكتب والتعليق عليها وتقديمها للقارئ مسألة مفيدة وتقوم على احترام وجهة نظر الآخر والإنصات إليه، خاصة وأن الكتاب حديث الصدور وباللغة الفرنسية ويتناول موضوعا ذا راهنية معرفية وفكرية : ويتعلق الأمر بالوضعية المعرفية للسوسيولوجيا. ونحن اليوم في المغرب نصارع من أجل إحلالها المكانة اللائقة بها لما عانته من تضييق عليها وتهميش لها خلال القرن الماضي، لدرجة أنني اليوم أدير برنامجا بحثيا حول "سنوات الرصاص المعرفية والثقافية" وهو برنامج يسعى إلى تقييم أوضاع الفكر والثقافة خلال فترة الممتدة من بدايات الاستقلال(1956) إلى سنة 1999. وهي الفترة التي عالجتها هيئة الإنصاف والمصالحة المؤسسة بمقتضى ظهير ملكي صدر بتاريخ 6/11/2003. وكنت قد ألححت وقتها على الاهتمام بما تعرض له المجال الفكري والثقافي من تضييق وخنق للوقوف على الأضرار وبناء السياسات الكفيلة للحفاظ على الإشعاعين الثقافي والفكري للمغرب وللمصالحة مع ذاكرتنا الثقافية والفكرية وإطلاع الأجيال عليها ومساعدتهم على امتلاكها.

عموما، سقط في يدي أن نص القراءة ليس إلا ترجمة لنصوص ومقالات دون ذكر المصادر. وأن الأستاذ بوكرامي لم يقدم أي جهد فكري سوى الترجمة عيبه الوحيد أنه لم يشر إلى ذلك، وهو الذي سبق له أن تحدث في أحد استجواباته المنشورة عن هزالة الترجمة والتسيب الذي تعرفه.

بعد هذه الإشارة إلى هذا السلخ المفترض، والذي أتمنى أن يكون هفوة مطبعية أسقطت إشارة الأستاذ إلى أن القراءة ترجمة لتقديم للكتاب ، إضافة إلى ترجمة بتصرف طفيف لقراءة للكتاب نفسه  من طرف ماتياس فرانكَان Matthias Fringant؛ أجدني مضطرا لأغتنم هذه الفرصة لا للتعليق على القراءة المقدمة لأنني لم أقرأ الكتاب بعد، ولكن لأناقشالمسمى "علم الاجتماع" المتداول للدلالة على السوسيولوجيا ولو أن المثل الجاري يقول "رب خطأ مشهور، خير من صواب مهجور"، على اعتبار أنني مهتم بالموضوع لما له من مسّ بتمثل هذا العلم والتشويش على وضعيته المعرفية ضمن العلوم الإنسانية والاجتماعية. ورفعا للكثير من اللبس عن هذا العلم، سأتناول هذه المسالة من ثلاثة زوايا كالتالي :

1-   حول التسميةوتأريخها :

لقد درج نعت السوسيولوجيا أو تسميتها في اللغة العربية علم الاجتماع . وقد شاع هذا الاستعمال منذ عصر النهضة في مصر  عندما تم وضع علم الاجتماع كمقابل للمُسمّى الغربيsociology/sociologie. وقد تم نحت هذا المصطلح في صيغته الفرنسية أول الأمر من طرف إيمانويل-جوزيف سيياس Emmanuel-Joseph Sieyès  انطلاقا من السابقةsocius المأخوذة من اللاتينية، وتعني : رفيق وشريك، بالإضافة إلى اللاحقة logos والتي تعود إلى اليونانية القديمة (λόγος) ومعناها : خطاب وكلام.  وسيأتي، بعد حوالي 50 سنة، أوكَيست كونت Auguste Comte لينسب المصطلح لنفسه على إثر شجار بسيط بينه وبين سان-سيمون Saint-Simon والذي عمل سكرتيرًا لديه ما بين 1817 و1823 بعد أن سمى هذا العلم الجديد "الفيزياء الاجتماعيةSocial Physics/physique sociale "؛ حيث كتب "أعتقد أنه علي أن أخاطر منذ اليوم باستعمال هذا المصطلح الجديد [سوسيولوجيا] الذي هو مقابل تماما للتعبير الذي سبق وأن استعملته (الفيزياء الاجتماعية) وذلك من أجل الدلالة عليه باسم واحد على هذا الجزء المُكَمِّل للفلسفة الطبيعية التي تعود إلى الدراسة الوضعية لمجموع القوانين الأساسية الخاصة بالظواهر الاجتماعية" .

ويشير كْرايْكَ كالْهون Graic Calhoun في مقدمة كتاب السوسيولوجيا في أمريكا والذي أشرف على إصداره مع مجموعة من الباحثين من الولايات المتحدة الأمريكية إلى أن وليام كَراهام سومْنِر William Graham Sumner  حاول وضع مصطلح علم المجتمع Societology كبديل لمصطلح كونْت لأنه كان يرى أنه أعمق دلالة وأكثر إشارة إلى طبيعة هذا العلم الجديد إلا أن التسمية الفرنسية سادت على غيرها.

على أنه من الجدير الإشارة إلى أنه من الممكن التأريخ بدقة نسبية لابتكار مصطلح سوسيولوجيا كمسمّى لهذا العلم الجديد مؤسسيا بالحديث عن إنتاج أول درس لها بالإضافة إلى إنشاء أول شعبة خاصة بها. وقد دُرِّسَت السسوسيولوجيا باسمها الخاص كمادة مستقلة بجامعة كانساس Kansas University بلورانس  Lawrenceبالولايات المتحدة الأمريكية، سنة 1890 من طرف فرانك بلاكمار Frank Blackmarتحت مسمى "عناصر السوسيولوجيا" بشعبة التاريخ والسوسيولوجيا سنة 1891. وأنشأت أول كلية مستقلة للسوسيولوجيا  سنة 1892 بجامعة شيكاغو Chicago University من طرف ألْبِيون سْمال Albion Small . وكان هذا الأخير مؤسسا لمجلة الصحيفة الأمريكية للسوسيولوجيا  American Journal of Sociologyسنة 1895. كما أنشأت أخرى بجامعة كولومبيا Columbia University بنيويوركNew York  سنة 1893 وذلك عشرين سنة قبل أن ينجح دوركهايم في تحويل كرسي التربية إلى كرسي للسوسيولوجيا.بينما أنشأت أول شعبة للسوسيولوجيا بأوروبا سنة 1895 بجامعة بوردو بفرنسا من طرف إيميل دوركهايم، أطلق بعدها، سنة 1896، مجلة الحولية السوسيولوجية L’Année sociologique.

أما في عالمنا العربي، فالوضعية كانت مختلفة والسياق السوسيوتاريخي تميز بتخلف المجتمعات العربي وترشذم أنظمتها السياسية مع تحلل النظام العثماني الذي بدأت العديد من محافظاته ترزح تحت نير الاحتلالالأوروبي من جهة، ووهن الأيالة المغربية التي أصبحت عرضة للأطماع الغربية التي تتوج بفرض نظام الحماية حيث كانت آخر الأراضي المحتلة بالعالم العربي. في هذا السياق جاءت السوسيولوجيا في ركاب الاستعمار (تتويجا للاتفاق سايكس – بيكو 1916) الذي وظّفها لفرض سيطرته العسكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية الثقافية.

هكذا، كانت مصر أولى البلدان العربية الذي شهدت بروز السوسيولوجيا؛ ذلك أن رفاعة الطهطاوي الذي كان في علاقة مع سيلفستر دو ساسي Sylvestre de Sacy المعروف باكتشافه لابن خلدون، قدّم هذا الأخير في كتابه تخليص الإبريز  على أنه "مونتيسكيو الشرق" . أكثر من هذا، فقد تم طبع المقدمة في مطبعة بولاق بالقاهرة سنة 1875 تحت إشراف الشيخ نصر الهويني. وقد اقترح محمد عبده تدريس المقدمة لطلبة الأزهر غير أن الشيخ الإنبابي باعتباره عميد الأزهر آنذاك عارض ذلك على اعتبار أنه ليس تقليدا دراسيا. وهو ما دفع محمد عبده لتدريسها لطلبة دار العلوم. وقد لاحظ بعض الباحثين تأثّر محمد عبده بالفكر الخلدوني في تفسيره للقرءان ... وتجدر الإشارة إلى أن أول محاضرة في السوسيولوجيا كانت سنة 1908، وهي سنة تأسيس أول جامعة أهلية على الطريقة الغربيةبمصر ... وفي هذا السياق، سيحضر طه حسين، بعد عشر سنوات من ذلك، أطروحته حول "الفلسفة الاجتماعية لابن خلدون" تحت إشراف إيميل دوركهايم، لكنه سيناقشها تحت إشراف فوكوني بعد وفاة دوركهايم. وهكذا بعد عودته سيصير "علم الاجتماع" عَلَماَ للسوسيولوجيا في عالمنا العربي.

وقد بدأ التعاون الدولي في المجال السوسيولوجي سنة 1893 عندما أسّس روني وُورْمْس René Worms المعهد الدولي للسوسيولوجيا  Institut International de Sociologie وأصدر مجلة تحت عنوان المجلة الدولية للسوسيولوجيا والتي كانت حولية طيلة الفترة التي امتدت من 1893 إلى غاية 1905. ومن المفيد الإشارة إلى أن الجمعية الأمريكية للسوسيولوجيا كانت قد تأسست سنة 1905 وكان أول رئيس لها هو ليستر فرانك وارد Lester Frank Ward أي في نفس السنة التي توقّفت فيها المجلة التي كان يصدرها روني وورمس من فرنسا. غير أنه في سنة 1949، ظهرت الجمعية الدولية للسوسيولوجياAssociation Internationale de Sociologie  التي يوجد مقرها اليوم بجامعة كومبيلطانسي  بمدريد Universidad Complutense de Madrid (إسبانيا) والتي لا زالت نشيطة. وقد تم تأسيسها تحترعايةاليونسكو في سياق النظام الدولي لما بعد الحرب العالمية الثانية المتسم بالثنائية القطبية وما رافقها من حرب باردة؛ حيث تم الاعتراف لها بصفة العضويةكمنظمةغيرحكومية، كما تم منحها صفة عضوفيالمجلسالدوليللعلومالاجتماعيةوبدأت تعمل كمركزاستشاريلدىمجلسالأممالمتحدةالاقتصاديوالاجتماعي. وتصدر عنها عدة منشورات بلغات متعددة منها اللعة العربية. وتنعقد مؤتمراتها كل أربع سنوات، وكان أول رئيس لها هو لويس ويرث  Louis Wirthمن الولايات المتحدة الأمريكية (1949- 1952)، وانتخبت مارغريت أبراهامMargaret Abraham من الولايات المتحدة الأمريكية للفترة 2014- 2018). وتعتبر ثاني رئيسة بعد مارغريت آرشيرMargaret Archer  من المملكة المتحدة التي انتخبت للفترة (1986- 1990). وقد اعتبرت السوسيولوجيا في المعسكر الاشتراكي حتى سقوط جدار برلين علما بورجوازيا (يخدم المصالح الرأسمالية).

2-   في النشأة :

ولتوضيح الفرق بين المسميين، وخاصة كيف أن إطلاق علم الاجتماع على السوسيولوجيا يضر بالقيمة المعرفية لهذا العلم والذي جاء رديفا لعملية التوفيق بين العقل والنقل، كما كان الأمر بالنسبة للفلسفة؛ أجدني مضطرا لتوضيح ظروف نشأة السوسيولوجيا في مهدها الغربي وما واكبها من صراعات فكرية واكتشافات علمية، وكيف كان عليه الأمر في العالم العربي.

إن ظهور السوسيولوجيا في العالم الغربي عموما جاء في سياق سوسيوتاريخي وإيديوثقافي خاص تميز كما عبر عنه جان ديفينيو Jean Duvignaud  بالثورات الثلاث والتي يمكن تفصيلها كالتالي :

‌أ.    الثورة الثقافية : المتميزة بانتصار العقلانية المدعومة بالعلم وبالفلسفة الوَضْعِية التي شكلت جوهر عصر الأنوار (القرن 18). وقد قام عصر الأنوار على سبع دعامات مبدئية، يمكن إيجازها كالتالي : حرية الروح النقدية، الإرادويةvoluntarism، الحرية، المساواة، التسامح الديني، الديموقراطية، الكونية الإنسانيةHuman universalism.

‌ب.   الثورة السياسية : المتمثلة في الثورة الفرنسية والتي كانت لها نتائج على مختلف المستويات، نذكر من بينها على سبيل المثال : اقتصاديا (أداء الضريبة من لدن كل من لديه دخل ووفق دخله)، سياسيا (فصل السلط الثلاث والحق في الاقتراع العام)، الاعتراف بالحقوق الاجتماعية والمدنية؛ حيث أنه في 26 أغسطس 1789تم اعتماد إعلان حقوق الإنسان والمواطن،وفصل الدين عن الدولة مع ما صاحب ذلك من صعود البرجوازية وظهور البروليتاريا.

‌ج.   الثورة الصناعية :وما واكبها من ثورة اقتصادية تمثلت في ظهور الرأسمالية، والتي انطلقت بداية في إنجلترا سنة 1770 لتنتشر في باقي البدان الأوروبية، وخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية بما لها من آثار على النظام الاجتماعي وبنيات المجتمع والعلاقات بين أفرد المجتمع ومختلف مكوناته.

بالمقابل جاءت السوسيولوجيا إلى العالم العربي في ركابالاستعمار الأوروبي؛ وقدتحولت وليدة الثورات إلى أداة للاستعمار. ففي مصر مثلا، وعلى إثر حملة نابليون (1798-1801)، بدأت النهضة العربية تتقوى تحت وقع آثار هذا الالتقاء الحضاري الذي اختلف حول قصديته الباحثون ... وهكذا كان من بين بعثات الطلبة المصريين إلى فرنسا طه حسين الذي بدأ بتحضير أطروحة في موضوع "الفلسفة الاجتماعية لابن خلدون" تحت إشراف إيميل دوركهايم نفسه، ومع وفاة مؤطّره سنة 1917، ناقشها تحت تأطير بول فوكوني Paul Fauconnet سنة 1918. وإلى جانبه كان هناك كل من منصور فهمي وعبد العزيز عزة اللذين أطرهما مجموعة من أصفياء دوركهايم ومجموعته من قبيل : لوسيان ليفي برول Lucien Lévy-Bruhl، وبول فوكوني. وعرفت هذه الانطلاقة الأولى للسوسيولوجيا في مصر معارضة من لدن الفئات المحافظة، كان أبرزها الضجة التي أثيرت حول رسالة الدكتور منصور فهمي والتي ناقشها في موضوع "أحوال المرأة في الإسلام" بالسربون La Sorbonne سنة 1913؛ حيث تطور الأمر إلى حدّ طرده من الجامعة المصرية  ولم يعد إليها إلا بعد ثورة 1919. إن تدريس السوسيولوجيا في هذه الظرفية كان يعتبر مؤشرا على التقاء مطالب الوطنيين وبمطالب القصر من حيث دعم وتوطيد المكاسب التي جاءت بها الثورة وتتوجت سنة 1922 بالاعتراف الشكلي بالسيادة المصرية كدولة مستقلة عن الخلافة العثمانية بالرغم من بقائها تحت سلطة التاج البريطاني. و"سمحت السوسيولوجيا والخطاب السوسيولوجي نوعا ما بتكريس "الشخصية الدولية" لمصر عبر إبراز ما يمكن أن تدّعي أنها تساهم به في النظام المشترك ضمن المجتمعات والأمم، وتفعل بنفسها كفاعل متفرد بتاريخها الشخصي في نفس الآن" .  ولم تُـقْتَـح شهادة خاصة بالسوسيولوجيا إلا سنة 1925 وفق التقاليد الفرنسية - لأن اللغة الفرنسة كانت لغة تدريس إجبارية - والدوركهايمية كانت هي السائدة على الخصوص؛ حيث أن تنصيب أول رسمي بكرسي السوسيولوجيا بالجامعة المصرية كان لفائدة البلجيكي جورج هوستولي Goerges Hosteletالمتخصص في الإحصائيات، ويعتبر من الجيل الثاني للدوركهايميين. على أن أول مصري سيتولى نفس الكرسي كان الدكتور علي عبد الواحد وافي خريج دار العلوم سنة 1931 تحت إشراف فوكوني نفسه في موضوع "مساهمة في نظرية سوسيولوجية حول العبودية". في حين كان أول متخرج من قسم السوسيولوجيا تحت إشراف أستاذ مصري (وهو د. عبد الواحد وافي) هو مصطفى الخشاب، وذلك سنة 1948 في موضوع "دراسة اجتماعية لنظام الضحايا والقرابين" وكانت أول أطروحة باللغة العربية. غير أن المدرسة الأنكلوساكسونية كانت حاضرة في الجامعة المصرية من خلال وجوهها البارزة آنذاك، من قبيل : إيفانس بريتشارد Evans-Pritchards  الذي أقام بها ما بين 1932 و 1934، وأرثور هوكارتArthur Hocart  الذي درّس بها السوسيولوجيا ما بين 1934 و 1937، وكذلك رادكليف براون Radcliffe-Brown الذي ساهم سنة 1948 في تأسيس المعهد العالي للدراسات الاجتماعية بجامعة الإسكندرية. غير أن خريجي المدرسة الأنكلوساكسونية (وأشهرهم حسن الساعاتي خريج جامعة لندن، 1946) لم يتولوا مناصب. ومع صعود النظام الناصري سنوات 1960 وظهور الجيل الثالث من الخريجين ستسود التيارات الأنكلوساكسونية وعلى رأسها الوظيفية، في حين ستتراجع المدرسة الفرنسية.

أما بالمغرب، فقد كانت أولى الأبحاث السوسيولوجية من إنتاج ضباط الشؤون الأهلية وموظفي إدارة الحماية من قبيل ميشو بيلير Michaux Bellaire، وروبير مونطانيRobert Montagne ، وجاك بيرك Jacques Berque... وكان الوحيد الذي جاء من الجامعة والذي ترك بصمتهالأكاديمية بالرغم من وفاته المفاجئة على إثر تجنيده في الحرب العالمية الثانية ألا وهو شارل لوكور  Charles Le Cœurوالذي كان اشتراكي النزعة، ومن أنصار جان جوريس. وأصبح عدد من هؤلاء أستاذة جامعيون في كوليج فرنساCollège de France بباريس بعد استقلال المغرب.أما في الجانب الإسباني، نجد أسماء من قبيل إيميليو بلانكو إزياكا Emilio Blanco Izaga، لوبيز أوليفانLópez Oliván ، وطوماس كَارسيا فيكَيراس García FiguerasTomás...

وقد شهدت السوسيولوجيا كمعرفة استعمارية الفرنسية ونظيرتها الإسبانية نفس التأسيس؛ حيث استلهم الإسبان التجربة الفرنسية؛ إذ لعب المتدخلون interventores  من بين موظفي الإدارة الترابيةدورا أساسيا من خلال محطتين أساسيتين : التحقيق القبلي الذي أجري سنة 1926، والبحث الإثنولوجي سنة 1940 في المنطقة الخاضعة للنفوذالإسباني بموجب نظام الحماية . ولئن عمل الفرنسيون على تبني منهج إرشاديParadigm يقوم على ثنائية مؤسسة على التعارض والصراع بين العرب والأمازيغ (البربر)، والمدينة ضد البادية موظفين عصبية ابن خلدون،  والسهول ضد الجبال، والشرع (المنبثق من الإسلام) في تناقض مع العرف (القائم على تقاليد وأعراف لا تتناقض بالضرورة مع الإسلام)، وبلاد المخزن (المناطق الخاضعة لحكم السلطان) ضد مناطق السيبة المتمردة على السلطة المركزية، مع تقسيم "المغرب الفرنسي" إلى منطقة مدنية وأخرى عسكرية ... فإن الإسباناعتمدوا نفس المنهج الإرشادي مع تعديلات طفيفة تمثلت في التركيز على تميّز الاستعمار الإسباني عن نظيره الفرنسية عبر توظيف مُداهِن للتاريخ الأندلسي المشترك والخطاب العروبي الذي يتغنى بالأخوة بين الإسبان والمغاربة من خلال نهج سياسة عربية تتجلى في إرسال البعثات من الشمال المغربي نحو المشرق، الأمر الذي يسر تأثر الحركة الوطنية بأفكار النهضة العربية وربط علاقات مع شكيب أرسلان ... إلا أن هذا لم يمنع من تسليط قمع شرس على الساكنة المغربية بالشمال خلال التوترات (استعمال الغازات السامة على إثر هزيمة أنوال). وقد قامت السوسيولوجيا الاستعمارية في "المغرب الفرنسي" على بناء نظرية للسيطرة، بينما ارتكزت في "المغرب الإسباني" على الأفريقانيةEl africanismo والتي كانت تعتبر بالنسبة للدولة الإسبانية منذ هزائمها الاستعمارية المتتالية في كل من أمريكا الجنوبية وآسيا في نهايات القرن 19 بمثابة "تعبير استشراقي؛ استعمل في نفس الآن كنهوض بالسياسة الاستعمارية مع القيام بإعادة تحديد الهوية الوطنية : فالمشروع الوطني للقرن التاسع عشر لم يكن منفصلا عن الإمبراطورية الاستعمارية، سواء كمشروع اقتصادي أو كتمثّل سياسي وترابي للدولة باعتبارها أُمَّة" . على أن ما ميز المنطقتين، هو أن الفرنسيين لم يمنحوا فرصة للباحثين الأجانب أو من بين المغاربة الاشتغال في منطقتهم، بينما الإسبان فتحوا الباب أما الباحثين الأنكلوساكسون على الخصوص، وهو ما جعل المغرب بعد الاستقلال منطلقا للتخصص في الدراسات العربية الإسلامية (انظر أطروحة المرحوم محمد بردوزي ).

على أن ما يميز سيرورة تمأسس السوسيولوجيا بين المشرق عموما والمغرب على الخصوص هو الاختلاف حول المكانة الممنوحة لابن خلدون في سيرورة نشأة هذا العلم؛ إذ يمنح المشرقيون لابن خلدون مكانة الريادة والتأسيس لعلم الاجتماع؛ أما في المغرب فنعتبر أن ابن خلدون مؤسسا لعلم للتاريخ كما يصرح بذلك في مقدمته؛ إذ انتقل به من مجرد تأريخ historiography إلى صياغة قوانين تاريخية تقوم على العمران غير أنه ظل حبيس نظرة لاهوتية، وأنه في أحسن الأحوال يمكن اعتباره من الممهدين لدرجة أن السوسيولوجيين المغاربة لم يشاركوا في ندوة ابن خلدون الدولية التي نظمتها كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد الخامس بالرباط سنة 1979تخليدا لمرور 600 سنة على تأليف مقدمته الشهيرة، وحضرها عدد كبير من الباحثين والمهتمين من العرب والأجانب.وقد خضعت السوسيولوجيا بالمغرب لنقد صارم يَسَّر الفرز بين الإنتاج الكولونيالي (الإنتاج العلمي الخاضع لصرامة منهجية) والإنتاج الاستعماري الذي كانت تحاليله لا تمت إلى المعطيات الميدانية بصلةواعتمد في غالبيته على الكليشيهات وفق نزعة غربية تمركزيةoccidentalocentrism.

3-   في السوسيولوجيا

إن استعراضنا لسيرورة تمأسس السوسيولوجيا في العالمين الغربي والعربي، يوضح لنا السياقات المختلفة لمأسسة السوسيولوجيا والخلفيات الفكرية والإيديوثقافية التي دعمتها. وهو ما يبين لنا بعد هذه الحفريات حول أسباب ظهور "علم الاجتماع" كمسمى للسوسيولوجيا والتي تعني "علم المجتمع" ، أنها لا تكتفي فقط بالاهتمام بما هو اجتماعي ولا يقتصر اشتغالها عليه فقط.ويمكننا انطلاقا مما سبق أن نقولبأن هذا المسمى "علم الاجتماع" أصبح دلالة على وضعية معرفية هشّة  ليس فقط على مستوى التمثل المعرفي لهذا العلم الجديد ولكن أيضا على مستوى تلقي نتائجه البحثية التي اعتبرت مسّا بخصوصيات المجتمع العربي.

فمن الواجب التنبيه إلى أن ظهور السوسيولوجيا جاء كما سبقت الإشارة موازيا لبروز "المسألة الاجتماعية" وابتكار مفهوم "الاجتماعي" في سياق الثورة ولادة المجتمعات الصناعية التي اتسمت باستقلالية السوق وولادة "المجتمع المدني" في استقلال عن "المجتمع السياسي" مع ما رافق ذلك من تغير في هندسة المجتمع العام والعلاقات بين مختلف مكوناته سواء الأفراد أو المؤسسات والبنيات. وقد عرّف روني وورمس السوسيولوجيا في العدد الأول من مجلته، أن "موضوع السوسيولوجيا ليس هذه الفئة أو تلك من الظواهر الاجتماعية، إن موضوعها مجموع الظواهر. وبصيغة قطعية، أن السوسيولوجيا ليس علما اجتماعيا خصوصيا، إنها العلم العام للمجتمعات" (ص. 173، 1893) . وهو ما أوضحه جاك دونزلو عندما أشار إلى أن مفهوم "الاجتماعي" كما اكتشفه أو ابتكره دوركهايم كان "تَخَيُّلا ناجعا - والذي شكل نطاقه التفسيري فيما يخص اشتغال المجتمعات وسيرها - لا قيمة له إلا من خلال العلاقة مع هذين التخيلين اللذين هما الفرد بصفته مبدأ لوضوح وجلاء الواقع الاجتماعي وصراع الطبقات، وكمحرك للتاريخ" .

وهو ما يوضح لنا أن ظهور السوسيولوجيا بصفتها "علما للمجتمع" انبنى على مفهوم "المجتمع" كاكتشاف جوهري في عصر الأنوار؛ حيث حل المجتمع محل الإلاه من أجل إمكانية التنبؤ بتحركات الإنسان. وقد شكل ظهور مفهوم المجتمع انتقالا من تفسير المجتمع بناء على تبرير إلاهي theodicyإلى تفسير يرجع كل دينامية إلى المجتمع بما هو كذلك sociodicy. وهو ما يوضح أن تمأسس السوسيولوجيا كعلم اجتماع في العالم العربي كان موضوع "مناولة فكرية" تقوم على الاعتراف به كاختصاص يتناول الأبعاد الاجتماعية كأعراض ودن مساس بجوهر المجتمع كما يتم تحديده من خارج المقاربة السوسيولوجية، وهو ما يفسر تأرجح السوسيولوجيا بين القبول والرفض على مستوى المأسسة بما هي كذلك. إن الانتقال من الحديث عن السوسيولوجيا كعلم للمجتمع إلى تعريفها كعلم للاجتماع إنما هو نقل لجوهره وفق الجدال الذي عاشه الفكر العربي الإسلامي ولازال والذي قام على التوفيق بين العقل والنقل. وقد فتحت هذه المناولة الباب لإطلاق دعوات لتعريب السوسيولوجيا وكذا أسلمتها. صحيح أن السوسيولوجيا - وكذلك العلوم الإنسانية والاجتماعية - لغتها العلمية مستمدة من اللغة العادية والمتداولة إلا أنها لها معجمها الخاص والمشترك مع العلوم الأخرى المنتمية إلى حقلها المعرفي. فعِلْمية السوسيولوجيا تأتي أولا من كونها موضوع ممارسة مهنية متخصصة يتحدد موضوعها وفق معايير ثقافية عامة. والعلمية هنا لا تتحدد بوجود سوسيولوجيا مثالية عابرة للمجتمعات ومحايدة ثقافيا فقط ولكن كذلك لأن موضوعها يهم المجتمع كمفهوم لا كنموذج أي كموضوع مبني لا كموضوع مُعْطى.

وهو ما يجعلنا نؤكد على أن السوسيولوجياعلم ومعرفة لها مقارباتها ومناهجها وتقنياتها في النظر إلى المجتمع باعتبارها هندسة مساهمة في الكشف عن الخلل في النظام الاجتماعي الذي يقوم عليه المجتمع (أيُّ مجتمع) وقادرة على مواكبة التغيرات المجتمعية ومختلف الظواهر التي تعوق التقدم والولوج إلى الحقوق والوفاء بالواجبات على مختلف الأصعدة بما يضمن جودة الحياة والعيش المشترك وفق المبادئ الإنسانية الكبرى التي تمثل مشترك الحضارة الإنسانية : كالعدالة، والكرامة، والإنصاف، والمساواة ... فليس من مهام السوسيولوجيا الدفاع عن جوهر المجتمع كمعطى أو كنظام خارج التاريخ البشري وبناء مطلق، ولكن يمكنها الاستلهام من النماذج المجتمعية في تأصيل المفاهيم التي أفرزها الفكر البشري من قبيل : الحقوق، الديموقراطية، والحرية، والمواطنة، التعدد والاختلاف، المشاركة ... مع احترام سيرورة المجتمع المدروس في سياقه السوسيوتاريخي، وإنتاج معارف قابلة للتعبئة من طرف القوى المجتمعية ومواكبة هذه التعبئة بما يخدم المبادئ الإنسانية المتعارف عليها كونيا.

وكما يقول دوركهايم  "إن التشارك والارتباط هو الشيء الوحيد الفعلي اجتماعيا، والسوسيولوجيا هي علم التشارك والارتباط نظريا : "فالسيولوجيالن تذهب للبحث عن موضوعاتها في الحياة الاجتماعية بل في أشكالها ... إن هذا الاعتبار التجريدي للأشكال الاجتماعية التي تؤسس للسوسيولوجيا حقها في الوجود بنفس الشكل الذي تدين فيه الهندسة بوجودها لإمكانية تجريد الأشكال الخالصة للأشياء المادية".

لهذا نعتبر "علم الاجتماع" مسمى قاصرا عن الإلمام بما هي عليه السوسيولوجيا، وأنه لا يضيرنا في شيء اقتراض العلم بمسماه اعترافا بانخراطنا في الحضارة الإنسانية الكونية، وتقديرا للتقدم المعرفي الذي كنا رواده في عصور سابقة واعتمادهم على فكرنا هو الذي أبدع هذه الحضارة والفكر. ويمكننا هذا أن نتحدث عن السوسيولوجي، والتَّسَسْلُج ... وما إلى ذلك !!

أستاذ باحث بالمعهد الجامعي للبحث العلمي - جامعة محمد الخامس

تعليق عبر الفيس بوك