اغتنام ليلة القدر

 

 

فوزي بن يونس حديد

 

يعيشُ الصائمون هذه الأيام أجواء ليلة القدر، وقد ثبت وقوعها بالقرآن والسنة والنبوية الشريفة، ولعل تخصيص سورة بأكملها للحديث عن هذه الليلة العظيمة دليل على أهميتها في حياة المسلم، فهي ليلة ليست ككل الليالي، ليلة تتجلّى فيها عظمة المولى عز وجل وسخاؤه لعباده، تبدأ من الغروب إلى مطلع الفجر، ولكن اقتضت حكمة الله تبارك وتعالى إخفاء هذه الليلة عن البشر حتى لا يتكاسل المسلم عن أداء هذه العبادة المقدسة طوال الشهر المبارك ويقصرها على ليلة واحدة.

ولئن كان أغلب الناس وعَامَّتُهم ما زالوا يعتقدون أن ليلة السابع والعشرين من رمضان هي ليلة القدر، يجنّدون أنفسهم لهذه الليلة ويقيمون لها الاحتفالات، ويصدحون بكل أنواع الأدعية والأناشيد والابتهالات إلى الله تبارك وتعالى، وفيها يختتم كثير من المساجد تلاوة القرآن في صلاة التراويح، والكل مبتهج بهذه الليلة، فإن العلماء لم يتفقوا على تحديدها ولا يوجد دليل قوي أنها في تلك الليلة، والدليل الوحيد الذي تمسّك به العلماء حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- الذي ذكر فيه أنه رأى ليلة القدر ثم أُنسيها، ولكن أمر أصحابه أن يتحروها في العشر الأواخر من رمضان وبعضهم زاد وقال: في الليالي الفردية.

فما زال المسلمون اليوم يبحثون عن الأسهل في العبادة، الذي لا يكلفهم وقتا طويلا ولا جهدا كبيرا، لم يعايشوا روحانيات الليلة القدرية العظيمة، هي ليلة خير من ألف شهر، نزل فيها القرآن الكريم وبركتها تتواصل إلى مطلع الفجر، "إنا أنزلناه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر تنزّل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر سلام هي حتى مطلع الفجر"، سورة قليلة كلماتها، عظيمة معانيها، تنبعث منها رائحة الإيمان والتواصل مع الخالق عز وجل في أوقات الحب والرفعة والسمو مع ملائكة الرحمن في جو روحاني يخلو من الإحساس بالفناء الدنيوي، ينزع المسلم فيه لباس الدنيا والزخارف والكبرياء، وينزل إلى ربه متواضعا ودون خيلاء، يذكر ربه فتفيض عيناه من الدموع وجلا وخوفا من عقابه ورجاء لرحمته، تنساب تلك الروحانيات في جسده فتمنحه السعادة والرخاء، والطمأنينة والصفاء، يتزين لربه بصنوف العبادات ويرضخ لخالقه كما لو أنه ارتكب كثيرا من السيئات، يرى بنور الله عالما آخر لم يره من قديم الزمان، يرى وكأن ملكا من السماء أتاه ليخبره أن الله قد غفر له، وأن صوته قد بلغ السماوات والأرض وارتفع شأنه عند سدرة المنتهى.

ليلة هي خير من ثمانين سنة ونيف من السنوات، قدّرها بحسابٍ قيومُ السماوات، وأضفى عليها النفحات والبركات، واهتزت لها الجبال والأرض والحيوانات، فهي ليست من حكايات ألف ليلة وليلة، إنها ليلة واحدة فقط لا ندري متى تكون وكيف تكون، أخفاها المولى عز وجل عنا حتى نكون أقرب إليه من كلّ مَنْ كان، أخفاها حتى يعلم الصادق المخلص ممّن على قلبه ران، فمن صادفها فقد زان، ومن ضيَّعها فقد خان، يدرك المسلم بطبعه أنه فان، وأن الرحلة قصيرة في بحر الإيمان، سويعات من الزمان، تقف فيها بين يدي الرحمان تتلو ما شاء من القرآن، وتدعو بما شئت للقيوم المنان، تدعوه أن يغفر لك الذنوب والآثام، ويخرجك من الدنيا سالما كخير الأنام، تبكي بكاء الذليل للقدوس السلام، وتسجد لربك والناس نيام، وتنثر في الأجواء عبق الأمن والأمان، وكأنك تعيش في بحر من الأحلام، يستمتع بها كل من صلى ونام، وتقرب إلى الله بعزم وتوافق مع النفس المطمئنة، فهي راضية مرضية حتى لو فارقت الجسد في الحياة البرزخية.

غنيمة كبرى غفل عنها كثير من المسلمين، وفضيلة عظمى تناساها جمهور العالمين، فطوبى لمن اغتنمها في طاعة الله ويا لخسارة من ضيّعها في الرفث واللهو واللغو.

تعليق عبر الفيس بوك