اليمن في القلب

 

 

د. عبدالله باحجاج

لن نُبَالغ إذا ما قُلنا بأنَّ كلَّ عُماني يملك شُعورا داخليًّا خاصًّا تجاه الأشقاء في اليمن، من منظور إنساني أوَّلا، ومن منظور الشقيق والجار الأوْلَى بالمساعدة، هذا الشعور محله القلب؛ وبالتالي هو -أي القلب- محل المشاعر والإحساس العواطف، أي بعيدا عن السياسة ودهاليزها ومواقفها التي قد تخدم طرفا دون آخر.

وكلُّ يوم يمر على الأشقاء من قتال ومعاناة، يتعمَّق الحزن في مشاعرنا من معاناة الأشقاء المدنيين الذين يتحملون العبء الأكبر للصراع في بلادهم، وهذه التفاعلية مع الأشقاء ليست قلبية فقط، أي أنها تتمركز في منطقة الدعاء، وإنما تأخذ شكل مبادرات، قرارات فردية ومجتمعية، وحتى حكومية، لدواعٍ إنسانية خالصة، فكيف إذا ما أضفنا إليها اعتبارات الروابط الاجتماعية المتشابكة والمتداخلة، والروابط الجغرافية المتلاصقة والمتجاورة، عندها، سنتفهم المنطلقات التي تدفع بالمواطنين من مختلف أنحاء البلاد للوقوف مع الجوانب الإنسانية للأشقاء في اليمن.

وهذا الوقوف يتمُّ بعيداً عن الكاميرات والأضواء، ربما لانشغالات المنطقة بأحدث أزماتها المعقدة، ربما لأنه ينم عن الشعور بالواجب الذي لا يسقط على الشقيق تجاه شقيقه؛ وبالتالي، يفضل سريته في ظل هذه العلاقة، وربما لأنها ممارسة اجتماعية تترجم سياسة البلاد الخارجية التي تتدخل فورا في أية أزمة إقليمية وعالمية للتخفيف من مخاطرها الإنسانية بعيدًا عن الأضواء، وتوظيفاتها السياسية، وربما نجد لها في المستقبل تأطيرات أخرى أكثر عُمقا.

المثير هنا أنَّ مُحرِّكات الفعل العُماني -بشقيه السياسي والاجتماعي- منبعه الأساسي إنساني أي قلبي، ومن خلاله نكسب القلوب، وننفذ منها إلى العقول، ويكونان القلب والعقل مصغيان لأي طرح عقلاني في توقيته المناسب لصالح الكل. وهذه الممارسة الاجتماعية والسياسة العمانية، دوافعها مرجعيتان؛ الأولى: شرعية، والثانية: رؤية سياسية عميقة؛ فالمرجعية الشرعية تكمن في الدافعية الدينية التي تدفع بنا إلى التجاوب مع البُعد الإنساني للأزمة اليمينة، نموذجا، فقد ورد الفعل الخيري والإنساني بسياق قراني قبل الجهاد في سبيل الله، في قوله تعالي: "يا أيها الذين أمنوا اركعوا واسجدوا وأعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون وجاهدوا" (الحج:77-78).

أمَّا الرؤية السياسية، فإنَّ الفعلَ العُماني في الأزمات الخارجية، يركز على الثابت فيها أولا، ومن ثمَّ المستجد ثانيا؛ فالثابت الدائم الشعب وأرضه، والمستجد الخلافات السياسية الطارئة؛ فالاهتمام بالثابت يأتي كضرورة ومقدمة أساسية لحل المستجد، ودونه، لا يمكن للفعل أن يؤتي ثماره أو على الاقل يكسب صدقيته ومصداقيته عند أطراف الأزمة.

وحتى عندما سُئلت من قبل إحدى الفضائيات العربية عن زيارة معالي يوسف بن علوي الوزير المسؤول عن الشؤون الخارجية للدوحة بُعَيْد تفجُّر أزمة الأشقاء مباشرة، رجحت الجانب الإنساني على الجانب السياسي فيها، كأن يحمل وساطة عمانية، فزيارته تعبر عن الهاجس الإنساني العماني للأشقاء القطريين.

لن نقف عند المنظور السياسي في الفعل العماني، وإنما تركيزنا هنا سينصب على الفعل الخيري والإنساني للإنسان العماني من آخر حداثياته، وهنا سأتوقف عند صورتيْن في أبلغ معانيهما وتجلياتهما الإنسانية الخالصة التي تكشف مجددا أصالة إنسانية الإنسان العُماني، ودرجة إحساسه بمعاناة الإنسانية خارج الحدود.

الاولى: اقتطاع أكثر من 1900 موظف وموظفة يعملون في شركة تنمية نفط عمان مبالغ من رواتبهم الشهرية، تصل إلى نحو 192 ألف ريال عُماني لمساعدة ضحايا الأزمة في اليمن؛ فالدافع طبعا إنساني، وهو يتجلى هنا، في أنبل معانيه، وأوضح مراميه.

والثانية: تدشين حملة أهلية عبر نصب الخيام الكبيرة في أماكن بارزة في عدة مناطق، ونشر صناديق التبرعات في المحلات التجارية، للغرض نفسه، طوال شهر رمضان المبارك، وفي كلِّ يوم تمتلئ الشاحنات بالأغراض المختلفة من مواد غذائية وملابس...إلخ، هذا طبعا بخلاف المساعدات الحكومية التي تتم عن طريق الهيئة العمانية للأعمال الخيرية مباشرة.

حملة أهلية لإخوتنا في اليمن، دوافعها إنسانية خالصة بحكم ما سلف ذكره، بدأت في الخامس من شهر رمضان المبارك، وتنتهي فجر يوم العيد المبارك، مفتوحة من الصباح الى منتصف الليل، تحت اشراف الهيئة العمانية للأعمال الخيرية - فرع ظفار- وجمعية البهجة العمانية للأيتام.

يستوقفك في هذه الحملة الأهلية الشباب العُماني المتطوِّع في إطار العمل المؤسسي الرسمي، وكلهم مستشعرين الأجر من رب عظيم في شهر كريم، تتضاعف فيه الحسنات، فهنيئا لهم هذا العمل المقدم على الجهاد -بنص تلك الآية- وافرحتاه لهم بمضاعفات الحسنات، وبالأثر المترتب على جهودهم في الدنيا والآخرة.

وقد رأينا الإقبالَ المجتمعيَّ على هذه المراكز وعلى الحسابات البنكية المعتمدة رغم ما تمر به ميزانيات الأسر من ضغوطات رمضانية والعيد المقبل، ولنا في تجميع قرابة 200 ألف من موظفي شركة واحدة مُؤشِّرا على حجم الإقبال الطوعي والتطوعي لمثل هذه المبادرات الأهلية والإنسانية.

فالأوضاع الإنسانية في الجار الشقيق لا تتحمل، ولا يقبلها الضمير الإنساني العماني، فوفق إحصائية دولية، فإنَّ كل أربعة من أصل خمسة يمنيين بحاجة لمساعدات إنسانية بسبب الحرب التي شردت نحو 1.5 مليون شخص، وقتلت أكثر من عشرة آلاف، وفق ما قاله منسق الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية جيمي ماغرلدريك، ويقال إنَّ العددَ قد يكون أكبر، بسبب افتقار بعض المناطق للمنشات الطبية، ويدفن القتلى دون أوراق رسمية، هذا غير غزو مرض الكوليرا الذي أوقع حتى الآن أكثر من مائة ألف حالة مرضية وفق إحصائية منظمة الصحة العالمية، فيما تقول منظمة أوكسفام الخيرية: إنَّ الوباء يقتل شخصا كل ساعة تقريبا في هذا البلد.

فيا أيتها الإنسانية، بلا جنسية، ولا هُوية دينية، ولا مذهبية، متى سيستيقظين من سباتك العميق؟ متى سيحاسبك ضميرك على حالة التفرج على المشهد الإنساني في اليمن؛ فالوجود الإنساني في اليمن يهدده الحرب والوباء يوميًّا، وأنت شاهد مُدان على نهاية الأبرياء هناك، فالساكت عن الحق كفاعليه، فشكرا لمن تحرِّكه إنسانيته المجردة في إنقاذ أو شفاء أو إسعاد تلك الإنسانية المعذبة المفروض عليها الحرب، وأبى الوباء إلا أن يحكم عليها خناق الوجود، والله المستعان.