علي المعشني
حِيْنَما تُولَّى القائدُ البانِي جلالة السُّلطان قابوس المعظم -حَفِظَه الله وَرَعَاه- مقاليد الحكم في السلطنة، فجر يوم 23 من يوليو 1970م، وَرِثَ أرضًا جَدْبَاء من كلِّ مظاهر العمران الحديث، ولكنه في المقابل وَرِث إنسانًا وتاريخًا وقيمًا وحضارة، والإنسانُ هو المنوط به الإعمار، والتاريخ هو المحفز للارتقاء، والقيم هي الإطار الشرعي للنمو والتنمية معًا؛ لهذا كان عهد قابوس ضياء بكل المقاييس، وبعثًا لكل المعاني والقيم الجميلة من فسيفساء الموروث العُماني العربي الإسلامي الإنساني.
القائدُ الحقيقيُّ هو مَنْ يستلهمُ من نفيس الموروث لوطنه وقيم شعبه وطموح أبنائه، وهو من يتشبَّه بوطنه بلا إفراط أو تفريط، وجلالة السلطان قابوس خير من تشبه بعُمان، فشابهها إلى حدِّ التطابق العضوي والنفسي.
والقائدُ الحقيقيُّ كذلك هو من يَسْتَنهض الأرض لتقاتل معه وتقف في صفه في السراء والضراء، وكان قابوسُ خيرَ من استنطق مفردات عُمان الصامتة والناطقة، فناصرته وحيته ورحبت به، وفخرت بعهده وسيرته وطموحه وحكمته، فقد كان قابوس الوجهَ الناطقَ والمعبِّر لجغرافية عُمان الصامتة وتاريخها الضارب في جذور السنين وأعماق الكون.
الصِّدق هو اللبنة التي بَنَا عليها السُّلطان قابوس عُمان المعاصرة، بتنميتها ونمائها، وإنسانها وسياستها ودبلوماسيتها، لم يقفزُ على الواقع يوما من الأيام، ولم يستسلم للظروف التي أرادتْ تقزيمَ عُمان الحديثة، ولم يلتفت للأصوات النشاز التي تقذف بجملتها ومفرداتها أمام عجلة عُمان الصاعدة نحو المجد والقادمة منه.
كلُّ الذين تعاملوا مع عُمان قابوس بعقل مفتوح وحكمة، أدركوا أنَّ التاريخ يمكن صناعته، والمجد يمكن زرعه، ولكن بأيدي من يعرفون نواميسَ التاريخ وتفاصيل المجد فقط، وكل الذين نسجوا علاقات مع عُمان قابوس من مشارق الغرب ومغاربها أدركوا أنَّ الصدقَ هو مُفتاح وسر هذه العلاقة، بل إنَّ الصِّدق العُماني أمضى من فتك الأساطيل وحاملات الطائرات، وأقوى من حق النقض في مجلس الكبار. عُمان قابوس تُدرك ماهية الحروب؛ لأنها وريثة إمبراطورية جابت البحار وواجهت ولم تتوارَ يومًا، وتُدرك مَثَالب الخصومات وتوريثها للأجيال؛ لأنها دولة تاريخ، وزعيمها قارئ ناقد وحذق للتاريخ، وتُدرك أنَّ الصدقَ ليس منجاة وفضيلة إنسانية فحسب، بل شمسٌ تسطع تحت نورها الحقائق وتكوى تحتها الأباطيل ويتوارى الزيف وتتساقط الأقنعة. الصِّدق ليس صفةً أخلاقيةً وقيمةً إنسانيةً فحسب، بل جعلها قابوس ركيزةً من ركائز سياسته وعلاقات عُمان التي تشبهه ويشبهها.
لهذا؛ لا يطلب الخصوم من عُمان قابوس غير الصدق، ولم يطلب الأشقاء والأصدقاء من عُمان قابوس غير الصدق، ولا يتوقع الحلفاء من عُمان غير الصدق.
للصدق، وليس لغيرة، اطمأن لنا العدو والخصم؛ لأننا لا نعرف الفجور في خصوماتنا، واطمأن لنا الشقيق والصديق لأننا لن نكون تجارًا في مواقفنا، واطمأن لنا الحليف لأننا لا يمكن أن نقبل بدور يخلو من الصدق.
كذب من قال وروَّج بأنَّ السياسة ليس لها مبادئ بل مصالح، فهو يقصد نفسه ولا يقصد عُمان ولا قابوسها بلا شك، فعُمان علمها الصدق أن تجعل من المبادئ ثوابت لا تمس ولا تساوم. أمَّا المصالح، فهي مُتحركة ومتحوِّلة، ولا خلط في عُمان قابوس بين المبادئ والمصالح في السياسة أو في غيرها من أوجه الحياة.
عُمان قابوس دولة يُؤرِّقها التاريخ، ويراقبها في كلِّ سكناتها، ومن يُراقبه التاريخ ويؤرقه يكون في حراكه وحركته حكيمًا ومتروِّيا؛ فصفحات الأيام ودولها لا ترحم المغفَّلين ولا تغفر لهم. من يَزْرَع الريح يحصد العواصف، ومن يَزْرَع الشوك لا يحصد الورد، ولكنْ من يَزْرَع الصِّدق يحصد السَّلام والمودة والسكينة والوقار والهدوء. يُرْوَى عن النبي الأكرم (ص) قوله: "من ضاقت به سُبل الرزق فليقصد عُمان".. ونحن اليوم نقول: من تاه عن سُبل الصدق فليقصد عُمان.
نسأل الله أن يحفظ عُماننا وسلطاننا بما حفظ به ذكره المنزل العظيم، وأنْ يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه إنه سمع مجيب.. وبالشكر تدوم النعم.
--------------------------
قبل اللقاء، يقول الشاعر المتوكل الكناني:
لسنا وإن أحسابنا كرمت...
يومًا على الأحساب نتكل
نبني كما كانت أوائلنا...
تبني، ونفعل مثلما ما فعلوا
Ali95312606@gmail.com