د. صالح الفهدي
يروى أن غلاماً من العرب لقي الشاعر المعروف أبو العلاء المعري، فسأله: من يكون الشيخ؟، فأجابه الشاعر أنه أبو العلاء المعري. فقال الغلام: أهلاً بالشاعر الفحل، ثم قال: أأنت القائل في شعرك؟ فإني وإن كنتُ الأخيرَ زمانَهُ/ لآتٍ بما لم تستطعهُ الأوائلُ. فأجابه الشاعر: نعم أنا من قلته. فقال الغلام: قول طيبٌ يدل على ثقة طيبة بالنفس والقدرة، ولكن الأوائل وضعوا ثمانية وعشرين حرفاً للهجاء، فهل لك أن تزيد عليها حرفاً واحداً؟ فسكت أبو العلاء ثم ردَّد: والله ما عهدتُ لي سكوتاً كهذا السكوت من قبل.
من المؤسف أنَّ العرب يروون هذه القصّة ليضربوا بها المثل في ذكاءِ الغلام وفي عجرفة أبي العلاء، ولم يأتِ من يلفت النظر إلى فكره المستقل، ونظرته المستحدثة، ونَفسه الإبداعي الذي احتوته مقولته، بل سخروا منه في هذه القصّة فاستصغروه بصغرِ سن الغلام كمحاورٍ بزّهُ في الحجّةِ، وفاقهُ في النظر، لأنه أراد أن "يتنطّع" لماضي الخلف، و"يتبجّح" عليهم بالجديد.. ولا يزالون واقعون في نفس الإشكالية حتى اللحظة..!
حين أتأمّل مساحة الاستقلال الواعي، والحريّةَ الإبداعية في مُجتمعاتنا أجدها مُستلبة بوعي أو غير وعي لصالح التقليد والتبعية بحيث إننا وقعنا نحن الذين نعيش اللحظة الحاضرة بين تقليدٍ الآباءِ من ناحية، ومستوردات القوى العالمية من ناحيةٍ أُخرى..!
الإشكالية هنا تبدو عميقة فكرياً وعاطفياً، إذ إننا حين نشعرُ بالعجزِ نحو تقدّم الآخر، وتفوقه الحضاري في جوانب علمية وصحية واقتصادية واجتماعية وفكرية وعسكرية وأدبية وغير ذلك فإننا وبدلاً من مجابهة الذات، والبحث عن معوقاتِ التأخر، ودوافع التقدّم، نلوذُ إلى مساحةِ الماضي، لاجئين إلى زمن الآباءِ والأجداد، لنتغنّى بالزّمن الجميلِ، ونلبس جلابيب آبائنا من أجل أن نشعر بشيءٍ من الدفءِ والأمان..!!
يقول الناقد الدكتور جابر عصفور في كتابه"هوامش على دفتر التنوير": «ويبدو أنَّ الحاضر الذي نعيشه لا يمزقنا بين الآخر الذي نحيا حضوره في علاقة تبعية من ناحية وتراث الماضي الذي نستعيده في علاقة تقليد من ناحية ثانية فحسب، بل يجعل من علاقة التبعية للآخر علة لعلاقة التقليد للماضي والعكس صحيح بالقدر نفسه. فالحضور التعويضي للتراث لا ينفصل عن الحضور المؤرق للآخر والآليات التي تحكم علاقات السلف بالخلف، فهذه هي تلك، في فعل الوجود الذي تغدو معه المعرفة نقلاً بغير دليل واتباعاً يلازم التسليم وتقليداً يرادف الإذعان والذي تغدو معه هذه المعرفة تبريراً أيدلوجياً لمنطق التبعية وتعبيراً عن آليات التخلف في مختلف جوانبه العلمية والفكرية والاقتصادية والاجتماعية».
إنَّ درجة الاستلاب والانسلاخ التي نعيشها كبيرة، ويبدو أننا لا نستشعرُ بذلك لأننا لم نستحضر الوعي بصورة جادّة في عقلياتنا..! لم نقف لنسأل: ما هي العوامل التي تؤدي بمجتمعاتنا إلى أن تكون رهينة التأثير بحيث تمارس دوائر التأثير عليها ضغطاً متواصلاً يقلّص فيها مساحة التحرّر الإبداعي، والاستقلال الفكري والنفسي والروحي.
ما لا تعيه مجتمعاتنا بوضوح هو أن الإنسلاخ من الهويات والتلبّس بالتقليد إنّما يبدأ باستهلاك الأشياء التي تنتجها مجتمعات أُخرى، وهذا هو السائد عندنا إذ سمّى الفيلسوف مالك بن نبي المجتمعات العربية "مجتمعات الشيء" نظراً لما تمارسه من تكديس الأشياء، واقتنائه كل شيء بصورةٍ غير واعية فقط من أجل التملّك والتفاخر..! الأمر الذي يعني التعويضِ عن الشعور بالنقصِ نحو عدم الإنتاج ..! لذلك ترى العربي يتباهى بسيارته الفارهة في شوارع لندن ليعوّض هذا الشعور بالنقص والانكسار في نفسه بإغاضة الرجل الغربي، كأنّما أرادَ إيصال رسالةٍ واضحة يقول له فيها: "أنت ترهقُ نفسك وتنتج ومع ذلك تشقى في معيشتك، أمّا أنا فلا أرهق نفسي ولا أنتج ومع ذلك فأنا مرفّهٌ وسعيدٌ في حياتي..!" وهي رسالةٌ تعبّر عن السفاهةِ الفكرية، والسذاجةِ العاطفية بلا شك..!
مرحلة تكديس الأشياء واستهلاكها تقودُ إلى مرحلةِ أعمق وهي تبني الأفكار وهي مرحلةٌ يقصدُ منها الهيمنة على العقلِ لتوجيهه نحو ثقافةٍ أُخرى أعمق من ثقافةِ السوق، وتبدو الأمثلةُ هنا في عدّة صور، فأبناؤنا قد أدمنوا الوجبات السريعة في سلسلةِ مطاعم ماكدونالدز، وإلى هذا الحد يبدو الأمر عفوياً، لكن الخطير في الأمر أنَّ هناك مفهوماً قد تغلغلَ في الشعورِ الباطن وبدا واضحاً دون القدرة على توصيفه وهو: "أنك ولكي تكون متحضراً ومتقدماً عصريّاً عليك أن ترتادَ ماكدونالز، فإذا كان لك وجهة نظرٍ معارضة لتناول الوجبات في هذه المطاعم فكأنّك متخلف في نظر الغير وأولهم أبناؤك..!" هذا يعني أن عليك أن تكون "أمريكياً" أو بالأصح "ماكدونالدياً"..! وبهذا فإنَّ الأمر قد بات واضحاً أن مطاعم "الفاست فود" هذه وعلى رأسها ماكدونالد هي منافذ ثقافية ليس لتغيير الذوق الاجتماعي العام بل ولتغيير العقلية أيضًا..! وهذا ما تنبّهُ له شعبُ بوليفيا فأصبحت أول دولة في أمريكا اللاتينية تخلو من سلسلة مطاعم ماكدونالدز عام 2002 بعد 14 من انتشارها..! في المغرب نجدُ فكرة "التفرنس" مرتبطةً بالتقدم، أي أن المغربي يتباهى بتفرنسه أكثر من مغربيته..! ويرسم أبوزيد المقريء الإدريسي هذا التوجّه نحو التقليد الحرفي من توهّم أن "الفرنسي متقدّم لأنه يتكلم الفرنسية، إذن لكي أكون متقدماً علي أن أتحدث الفرنسية..!" وكان يجب أن يكون القياس هكذا:"الفرنسي متقدم لأنه يتكلّم لغته الوطنية، إذن عليّ لكي أكون متقدماً أن أتكلم لغتي الوطنية" وينطلي هذا الوهم على مُجتمعاتنا في نزعةٍ نحو التفاخر باللغة الإنجليزية ..!
في كتابه " ماكدونالدية المجتمع The McDonaldization of Society" يصف جورج ريتنز George Ritzer الماكدونالدية بالقابلية للسيطرة، فجميع موظفي النموذج (مطاعم ماكدونلز) يلبسون ملابس موحدة ويتبعون كذلك معايير محددة. ومن سماتها كذلك إحداث "التهجين الثقافي"، إذ عندما تدخل ماكدونالدز دولة ما، فإن أنماط المستهلكين وعاداتهم، من سلسلة الأكلات، إلى الثقافة المحلية.. كلها تتعرض للتغريب".
هذه هي العولمة في وثنها المجسّم واضحةً للعيان بأبعادها الثقافية العميقة، في حين تبدو مجتمعاتنا مخدّرةً لا تستوعبُ أنها تتأرجحُ بين عولمةٍ تمحقُ خصوصيتها الثقافية، وتمارس الاستلاب، وبين انغماسها في "الآبائية" التي هي مرحلة الزّمن المتقادم، فتقدّس كل ما فيه من رموزٍ، وتراث، وعلماء، وزعماء دون تمييز، ودون نقد..! حتى بدا الأمر وكأننا أدنى درجةً من أسلافنا من الآباء والأجداد، وسياطُ الثقافة المتوارثة تمارس الجلد على عقولنا، وتشعرنا بالدونية والتقزّم أمام جيل مضى، فالآباءُ أفضلُ حالا منا، ومعلمو الأمس أفضل من معلّمي اليوم، والناس أكثر صلاحاً في الماضي، وآباؤنا أكثر تعقلاً منّا .. متجاهلين تماماً ما حفل به التاريخ من حروب شعواء لأسباب تافهةٍ، وغير ناظرين بعينٍ ناقدةٍ للإشكاليات التي حفل بها الماضي ورموزه وحوادثه بل رفعناهُ إلى درجةِ التقديس فتقازمنا دونه وتضاءلنا..!
إذن فإشكاليتنا في التقليد والتبعية ليست فقط مع العولمة والقوى العالمية التي تجسّدها الدول العظمى والشركات العابرة القارات والمؤسسات العالمية، بل وفي "الآبائية" التي تجعلنا لا نخلع "جلابيب آبائنا" باستقلالنا فكرياً، ونفسياً حتى نُشعِرَ أنفسنا بأننا نملك القدرات الهائلة، والمكنونات العظيمة التي نستطيع أن نبني بها حضارة معاصرة. يقول ابن خلدون في الفصل الثالث والعشرين من مقدمته:" ترى المغلوب يتشبه أبداً بالغالب في ملبسه ومركبه وسلاحه في اتخاذها وأشكالها بل وفي سائر أحواله وانظر ذلك في الأبناء مع آبائهم كيف تجدهم متشبهين بهم دائماً وما ذلك إلا لاعتقادهم الكمال فيهم وانظر إلى كل قطر من الأقطار كيف يغلب على أهله زي الحامية وجند السلطان في الأكثر لأنهم الغالبون لهم حتى إنه إذا كانت أمة تجاور أخرى ولها الغلب عليها فيسري إليهم من هذا التشبه والاقتداء حظ كبير".
التقليد يبدأ من الأشياء ثم الأفكار وأخيراً يستقرُّ في القيم، وهذا ما نشاهده بوضوح في مجتمعاتنا إذ نحن نعيشُ المرحلة الأخيرة من التقليد بعد أن كدّسنا الأشياء، وتبنّينا الأفكار.. فأصبحنا إما أن نقلّد قيماً عتيقةً لم تعد صالحة لهذا العصر، وإمّا أن نتّبع قيماً معولمةً ليس لها انتماءُ أصيل بثقافتنا ..
أمّا الحل فهو أن نستحضر وعينا بذواتنا، وقدراتنا على أن نصوغ لأنفسنا نموذجاً قيمياً "برادايم" خاصاً بنا، ينتشلنا من فكرة التشتت هذه، كما فعلت فرنسا واليابان وكوريا الجنوبية والصين بل وأقربها إلينا ماليزيا.. الحل أن ننتشل أنفسنا مما وقعنا فيها، فننتصر لذواتنا ولا نرضى بأن نحيا إمّعات تتعيّشُ على التقليد، وترضى بالتبعية، بل أن يكون لنا الصوت العالي الذي نعبّر به عن مرحلتنا في التاريخ، فمن صنع التاريخ قبلنا أو من سيأتي بعدنا ليس بأفضلِ منّا إن نحن عرفنا قيمة أنفسنا.. وإيماننا العميق بقدراتنا.