المجتمع المدني .. أهمية الدور المنوط به (1 ـ 2)

 

 

عبد الله العليان

برهنت تجارب التاريخ الحديث أنَّ الحراك المدني لا يتم بصورة انفرادية أو جزئية، بل لابد من إشراك المُجتمع المدني بكل فئاته في إرشاد المسيرة الإصلاحية، وتقويم جهودها، بتعزيز مضامين الإصلاح ومتطلباته الثقافية والاجتماعية والفكرية، وإزالة العوائق التي تعترض خطواته وبلورة الأفكار المطروحة لهذا الإصلاح والمُجتمع المدني ليس نقيضاً للدولة أو معادياً، بل يصب في مجراها ويدعمها بما يُسهم في النهوض والتطور المنشود.

فإذا كانت الدولة ديمقراطية تتمتع بالشفافية، واحترام القانون والمؤسسات الدستورية قام التعاون بينها وبين قوى المجتمع المدني وهكذا. ففي كتاب (المجتمع المدني وأبعاده الفكرية)، الذي اشترك فيه كل من د. الحبيب الجنحاني ود. سيف الدين عبد الفتاح إسماعيل، تناولا هذا الجانب المهم في مسيرة النهوض العربي، وطرحا الكثير من الأفكار والتوجهات فيما ينبغي عليه المجتمع المدني العربي والمجتمع الأهلي الإسلامي بمضامينه الإيجابية وأثره على المجتمع، يقول د. الجنحاني إن المجتمع المدني والدولة ليسا مفهومين متقابلين في نظرنا. بل هما مفهومان متلازمان، ومتكاملان، فلا يمكن أن ينهض المجتمع المدني، ويؤدي رسالته في المناعة والتقدم بدون دولة قوية، تقوم على مؤسسات دستورية ممثلة، وتعمل على فرض القانون، كما أنه من الصعب أن نتصور دولة وطنية قوية يلتف حولها أغلبية المواطنين بدون مجتمع مدني يسندها، وإلا فإنَّها تتحول إلى دولة معزولة قد تؤدي دورها من خلال أجهزتها البيروقراطية، ولكنها تنهار في نهاية المطاف فينهار معها المُجتمع، ويقدم لنا التاريخ المُعاصر أمثلة متعددة على ذلك من انهيار دولة الرايخ الثالث إلى سقوط دول معسكر أوربا الشرقية في التسعينيات.

إنِّه من الخطأ إذن مُقاومة الدولة باسم المجتمع المدني، إذ إن ضعف الدولة الليبرالية الحديثة يهدد المجتمع المدني أو يفتح الباب أمام القوى المناهضة بحكم آيديولوجيتها لقيم المجتمع المدني وعندما نعود، كما يرى د/ جنحاني، إلى علاقة المجتمع المدني العربي بالدولة نستطيع القول: إنه لا يمكن رفع الشعار المطروح في بعض البلدان الأوروبية " دولة أقل، ومجتمع مدني أكثر"، كما أنّه ليس من الواقعية رفع شعار (دولة أضعف ومجتمع مدني أقوى)، ولكننا نستطيع أن نرفع شعار (كثير من الدولة، وكثير من المجتمع المدني معاً)، كما لمَّحنا إلى ذلك، لكن بشرط أن تكون دولة ليبرالية ديمقراطية، وكثير من الدولة لا يعني كثيراً من السلطة، كما يفهم ذلك المحتكرون للسلطة والدولة معاً. وموضحاً أن السعي الهادف إلى إرساء أسس المجتمع المدني لا يمثل في نظرنا وصفة سحرية لكلّ مشاكل البلدان العربية، ولكن لا بديل عنه لكسب رهان المستقبل، وتحقيق المناعة في الظروف الدولية الراهنة، وقطع خطوات جديدة وثابتة على درب التقدّم والحداثة. ويرى د. سيف الدين عبد الفتاح،أن مفهوم المجتمع المدني باعتباره المفهوم المحوري، يفرض ضرورة البحث في محتواه وطبيعته، كما يلزم الإشارة إلى تطبيقاته، خاصة إذا ما أريد ربطه، على نحو أو آخر بالمجال المعرفي الإسلامي، وذلك بدوره لا بد أن يستدعي إشكالية معرفية منهجية تتعلق بالمفاهيم الغربية حينما تلتقي في سياق متمايز أو مختلف نوعاً ما، دون أن يهمل الذاكرة الحضارية التاريخية ورؤيتها للظواهر الدالة على جوهر مفهوم المجتمع المدني .

مشيراً إلى أن الرؤية الإسلامية تمتلك نظرة متميزة للتكوينات المؤسسية السابقة عليها أو ما اصطلح على تسميته في التنمية السياسية والتحديث المؤسسات التقليدية، فإنها تتعامل معها من منطلق استثمار فاعلياتها وإيجابياتها، دون الوقوف حيالها موقفاً حاداً يتّخذ شكل المواجهة والتكسير، بل إنَّ هذه الرؤية حرصت ـ مع  تواجد إمكانات لعزل القيم الفاسدة، في تلك التكوينات المؤسسية ـ على محاولة استثمارها كوحدات مجتمعية تمارس حركتها باعتبارها مكوّنات مؤسسية يمكنها القيام بأدوارها لتحقيق أقصى فاعلياتها مندمجة في نسيج الأمة محققة مقاصدها.

تكسير هذه المؤسسات لم يكن هدفها، ولكن جوهر تركيزها كان السياق القيمي الذي تتحرك فيه وبه، فإنَّ رفض تكسير القبيلة باعتبارها أحد المحاضن الطبيعية للفرد، التي لها تأثير في فاعلياته وإيجابياته كان أحد أسس بناء مُجتمع المدينة على عهد النبي (ص)، بينما كان الهجوم على الجاهلية والعصبية باعتبارها قيماً سلبية تتعلق بهذا التكوين المؤسسي عملية أساسية "دعوة الجاهلية الأولى" "دعوها فإنها منتنة"، بينما هذا الاستثمار للقبيلة كمكّون مجتمعي مؤسسي له قواعده، تزامن مع هدم مؤسسة "مسجد الضرار" على عهد النبوة، رغم اتخاذها ـ ظاهراً ـ شكلاً هو من صميم التكوينات المؤسسية الإسلامية "المسجد"، إلا أن تأسيسها القيمي ومقاصدها في الحركة لم تكن تعني إلا هدماً وضراراً بالكيان الاجتماعي الحضاري للأمة.

وطرح د. سيف عبد الفتاح مسألة انتقال ظاهرة المجتمع المدني بعد التغيرات والتحولات في العالم بعد انتهاء الحرب الباردة، موضحاً أن هذا الانتقال إلى المستوى الدولي والعالمي مشفوعاً بظاهرة العولمة، وثورة معلوماتية تهدف إلى تأسيس عناصر شبكة اتصالية Net Working  والتي صارت سمة للتفاعل الدولي في العقد الأخير، بحيث طالت ظواهر أخرى في العالم ـ وصولاً إلى محطة النهاية وربما الأخيرة للمجتمع المدني في العالم وتحت مسمى برز في الآونة الأخيرة وهو "Global Civil Society" إلا أنَّ الأمر لا يتعلق بمجرد بروز التسمية ولكن الأمر يتعلق بالتساؤل إلى أي مدى يوجد على أرض الواقع المجتمع المدني العلمي في ظل تطورات ومتغيرات بعضها سياسي وبعضها اجتماعي وآخر ثقافي، إذ يشهد العالم تحولات غاية في الأهمية يتراوح بين تباين حاد بين مناطق مختلفة وبين بروز ظاهرة العولمة ـ بغض النظر عن الجدل الدائر حولها بين الرفض أو القبول، أو التوجهات والتفاعلات الناجمة عنها. وهو أمر يفرض في ظل التداخل وتطور العلاقة بين الداخل والخارج في ظل تداخل متوقع بين المُجتمع المدني العالمي ومستويات وجود المجتمع المدني الأخرى في العالم محلياً وإقليمياً. بين ما تفرضه عناصر مجتمع مدني عالمي وخبرات متمايزة ربما تجد جذورها في ذاكرتها الحضارية، ومن أهمها ما نحن فيه ما يرتبط بالخبرة والرؤية الإسلامية.