تغيُّر معادلة القوَّة في الخليج

 

 

د. عبدالله باحجاج

لَنْ نكونَ سِوَى دُعَاة خير لبلادنا ولأشقائنا الخليجيين؛ لأيماننا بأنَّ كل مُقوِّمات الدول الخليجية الست، تُشكِّل دولةً واحدةً مُتجانسة ومُتناغمة، في كل شيء، في حدودها المتلاصقة والمتجاورة، وفي ديموغرافيتها، وفي عاداتها وتقاليدها، وحتى في مزاجها النفسي.

لذلك، لن نقف هنا لنعاتب طرفا دون آخر، أو نكشف أخطاء، وإنما سنقف مُبصرين ومنورين بمآلات السياسيات التي اتُّخذت في الأزمة الجديدة بين الأشقاء، كسابقة يجب أن لا تتكرر، بل يجب أن لا تستمر طويلا. ففيها من الدروس والعِبَر التي ينبغي أن تُستنطق بصوت عالٍ، وهى وإنْ استُوعبتْ سياسيًّا، فستكون كفيلة بكبح جماح الكثير من التطلعات السياسية الإقليمية التي ستسبِّب صداعات مقبلة، لن ننكر أنَّ هناك قيادات سياسية لديها حدود مُتخيَّلة لمستقبل دولتها، أي حدود خارج الأوراق الرسمية، وهذا التخيُّل قد يكون سببًا رئيسيًّا في المشكلة الكبرى بالخليج، قديما وحديثا ومستقبلا، غير أنَّ الأزمة الخليجية الجديدة قد جاءت في إيجابياتها لتبدِّد الكثير من المفاهيم والقناعات السياسية، ولتبرز ضرورة التعايش مع الواقع كما هو، لا كما هو مُتخيَّل.

لعلَّ أبرز هذه المتغيرات الجديدة، تغيِّر مُعادلة القوَّة في الخليج؛ فهذه الازمة قد أعلت من شأن علاقات الدوحة الدولية، كقوة في مواجهة تحدياتها الخليجية الجديدة، بحيث غيَّرت هذه القوة مُعادلة المواجهة الخليجية الخليجية، وحَّدت كثيرا من تداعياتها المتوقعة. ومن هنا، ينبغي أن يسقط من الحسابات مفهوم الدولة الصغيرة داخل حدودها الوطنية أو داخل محيطها الجغرافي، أو داخل محيط جغرافي تحيط به قوى إقليمية كبرى؛ بحيث أصبحت قوَّة العلاقات الدولية تظهر هنا كعامل يتفوق على كلِّ عوامل القوة التقليدية الأخرى؛ فقوة علاقات الدوحة الخارجية بشقيها الإقليمي والدولي تحوَّلت إلى قوَّة تضاهِي عَوَامل القوَّة التقليدية الأخرى للدول؛ مثل: القوة العسكرية والقوة الاقتصادية، وقوة السكان، وقوة الجغرافيا، بل وتحييدها عن معادلة تحصيل النتائج. وطَرْحُنَا لها هنا يهدف لإبراز ماهية هذه القوة ودورها في إبطال مفاعيل القوى الأخرى التي تتفرد بها دول المواجهة مع قطر، وهذا يعني نسبية القوى التقليدية أمام تعاظُم قوَّة علاقات الدول الدولية.

وفي إطار بحثنا عن عُمق العلاقات التركية-القطرية حتى نتفهَّم موقفَ أنقرة من الأزمة الخليجية بُعيد تفجير الأزمة بين الأشقاء، وجدنا من خلال عدة مصادر أنَّ عُمق العلاقات القطرية-التركية ليس في أبعادها المالية والتجارية فحسب، وإنما متجذرٌ في القيم المشتركة والرؤى الإستراتيجية والروابط التاريخية، وكذلك في درجة الاعتماد السياسي المتبادل.

وهذا ما عبَّر عنه بوضوح أردوغان نفسه أثناء زيارته للدوحة في 15 فبراير الماضي؛ عندما رَبَط أمن البلدين ببعضهما البعض، وأكد كذلك قائلا: "قطر لطالما كانت خاصة في الأوقات الصعبة الأخيرة، حليفا قويا لتركيا، ومع قطر نأمل في حل كل المشاكل الإقليمية".

وفي مَصَادر أخرى، وجدت فيها معلومة ينبغي أنْ نأخذها بعين الاعتبار، وهى أنَّ الدوحة كانت إحدى المحميات العثمانية، لكنها تختلف عن بقية دول مجلس التعاون الخليجي؛ كون أمرائها لم يتمردوا على الحكم العثماني، فهل هذه الحقيقة التاريخية تبنى عليها الثقة الحالية بين أنقرة والدوحة؟

وكلما تعمَّقنا أكثر في عُمق العلاقات القطرية-التركية، سنجد عواملَ أخرى: اقتصادية وسياسية، تغلب الثقة الكاملة في علاقات البلدين الآن، وهى التي تدفع بأردوغان إلى ربط أمن بلاده بأمن قطر، وفي الانقلاب الأخير في أنقرة، انكشفتْ مَلَامح هذا العمق الذي بدأتْ الدوحة تجني ثماره حاليا في أزمتها الخليجية.

وهذا يُحْسَب للدوحة التي كانت لها رؤيتها الخاصة وأجندتها الإقليمية التي حدَّدتها من خلال مجموعة مبادرات ومصالح اقتصادية عميقة، وهذا يَعْنِي أنَّها كانتْ في موقع الفعل الذي استفرد بصناعة علاقات اقليمية ودولية، أصبح لها من خلالها ثقل يرجح موازين القوى في الأزمات، وهنا نستشهد كذلك بمواقف ألمانيا وروسيا، اللتين كانتا من بين الدول السباقة في التضامن مع الدوحة سياسيًّا واقتصاديًّا.

قوَّة العلاقات القطرية الإقليمية والعالمية، لم تجعل خيارَ الحصار الجوي والبري والبحري سلاحاً حاسماً في تحقيق الأجندة السياسية للأزمة الخليجية الجديدة؛ فقد كسر سريعا عبر فتح الأجواء والموانئ الإقليمية والعالمية، وهذا طبعا لن ينساه القطريون -نظامًا وشعبًا- كما سيظل جاثما فوق الجسم الثقيل للمنظومة الخليجية لمدى زمني طويل، يتوقف على طول الأزمة، وكيفية حلها.

فَمَن يقفُ مَعِي في أزمتي؛ لزاما أنْ أقف معه في أزماته، ولدينا كعمانيين تجربة نبني عليها هذا الحكم، ولدينا إحساس مرتفع بالبُعد السيكولوجي للأشقاء القطريين من الأيادي الممدودة لهم بعد أن حاصرهم أشقاؤهم من كلِّ الجهات بصرف النظر عن دهاليز السياسية ولعبها وأسرارها، وسلبياتها وإيجابياتها، ومهما كانت، فلابد من مراعاة البُعد الديموغرافي الواحد في الدول الست كلها.

وهذا ما دَفَع بنا في مقالنا الأخير "نجاح الوساطة الكويتية.. خيارٌ وحيدٌ لكل الخليج"، إلى المطالبة بنجاح هذه المبادرة فورا؛ فالتأخير يُفقدنا قطر -نظامًا وشعبًا- لسنوات طويلة، ويُوسِّع قاعدة الرَّافضين للمنظومة الخليجية حتى في صيغتها الراهنة، فكيف بوحدتها؟! فالإجراءات والسياسات المتخذة في هذه الأزمة مُؤلمة وقاسية، وتصنع نفسيَّات مُحتقنة.

لكنَّنا ينبغي أنْ لا نُغْرِق في السلبيات، ونتغاضَى عن الإيجابيات، وهى كذلك مهمة جدًّا، وكما يقول المثل الشهير: "رُبَّ ضارة نافعة"؛ فهى أزمة ضارة بكلياتها وجزئياتها، لن نتمناها للأشقاء أبداً، لكنها تُعطينا درسًا عظيمًا رُبَّما يكون توقيته مهمًّا الآن؛ من أجل تغيير العقليات السياسية، وهو ضرورة إسقاط مفهوم الدول الصغيرة من الحسابات الخليجية، بعدما رأينا ملمحًا جديدًا من ملامح القوة الجديدة في الخليج، وهو قوَّة علاقات الدولة الإقليمية بالذات، ومدى الرِّهان عليها أثناء الأزمات المحتدمة، كالأزمة الخليجية الراهنة.

قياس قوَّة العلاقات الإقليمية والدولية من المنظور القطري، ينبغي أن نَبْحَث عنه في مدى تأثيرها على هذه الأزمة؛ فدخول تركيا مثلا كفاعل إقليمي لصالح الدوحة يقلب خارطة التحالفات في المنطقة، ويغيِّر عوامل القوَّة فيها، ويرسم خارطة قوة إقليمية جديدة بتحالفات غير مسبوقة، تتميَّز بالصراحة والصدق في التضامن مع الحليف وقت الشدة، وفي الوقت المناسب.

فهل ستتغيَّر الرُّؤى والمفاهيم السياسية الخليجية تباعًا، خصوصا من ناحية الحدود المتخيَّلة، ومفهوم الدول الصغيرة؟! وذلك ضمانة للاستقرار داخل دول المنظومة الخليجية، بل وقد تدفع بهذه المنظومة إلى الاتحاد الذي تتطلعه الشعوب الخليجية.. وللموضوع تتمة مُعمَّقة.

الأكثر قراءة