صقور الريف المنقرضة

  علي بن كفيتان بيت سعيد

صنف علماء الطبيعة وعلم الأجناس الطيور الجارحة إلى أنواع، فهناك صقور السهوب، وصقور البادية، وصقور المناطق الساحلية والخيران، وصقور الريف وهذا التصنيف المناطقي لا علاقة له بعلم أجناس الطيور المعتمد على الدراسة الجينية، وأنا في هذا المقال لا أرغب في أن أتحفكم بمحاضرة علمية معقدة عن الصقور، لكني لاحظت تغيرا كبيرا في سلوك صقور الريف، فمن حيث المعاناة فإن صقور السهوب أو البادية هما الأكثر كدحاً في الحصول على الحياة، وعلى النقيض صقر الساحل أو الخور فكل أنواع اللطائف تتواجد على مائدته المائية بل وحتى لديه حقوق النزهة والتمتع بالأجواء الاستثنائية بعد الشبع من دجاج الخور الغني بالبروتين والكربوهيدرات.

جرني الفضول مرة بحكم طبيعة عملي أن أتبع تحركات الصقور في الريف فوجدت أنَّ أعدادها أصبحت قليلة، وربما مُهددة بالانقراض، رغم وجود عدد من الفصائل الأصيلة التي لا زالت تكابد عاديات الزمن، إلا أن المستقبل يظل قاتماً في ظل شحوب الأرض، وخلوها من بساطها السندسي الأخضر، وغاباتها الوارفة، فبعد أن كان يحلق عالياً، ارتضى بالمسافات القريبة ربما ضعف نظره وربما تعب من التحليق عالياً دون مُبرر، كان في الماضي يهبط على أغصان أشجار التين والزيتون البرية الوارفة واليوم تجده على جذع شجرة سوداء يبس عودها وتهالكت أوراقها والتهمتها ممالك النمل الأبيض التي لا ترحم.

شاءت الظروف أن أجد أحدهم صريعاً على الطريق العام، كانت فرصة لا تفوت لباحث مبتدئي في حياة الجوارح، لم أنس التعليمات الاحترازية لمرض أنفلونزا الطيور، فقد لبست قفازي، وأخذت كمامة الأنف، واقتربت من تلك الجثة الهامدة على الرصيف، قلبتها لا توجد آثار حادث اصطدام أو حتى طلق ناري، زاد توجسي من وجود مرض، قمت بدسه في كيس بلاستيكي محكم الغلق وقذفته في شنطة سيارتي الخلفية، زارتني شكوك عن حالة الوفاة ولا مناص من إجراء تشريح للجثة لكنني لست متخصص لجأت إلى صديق يعمل كطبيب بيطري منذ عقود، اتصلت به وشرحت له الموقف فأجابني بأنه طبيب متخصص في الأبقار وليس لديه معرفة بعالم الطيور، فألححت عليه لتشريح جثة الصقر واكتشاف إن كان مرضاً أم تسمماً أم غير ذلك، الرجل كان صادقاً في رفضه فهناك فرق هائل بين علم الطيور وعلم الأبقار لكن الصداقة والترجي أجبرته على الاستجابة.

كان رجلا عربيا أصيلا وبوصولي إلى بيته ليلاً، استقبلني ضاحكاً ومتهكماً في آن واحد، وكان مستغربًا من الحاحي واهتمامي، فقلت له مجرد فضول وأنا حالياً مهتم بصقور الريف التي أصبحت مُهددة بحكم الظروف البيئية وربما البشرية، وقال الرجل وماذا تريدني أن أفعل الآن؟ قلت له شرح الجثة الآن وأمامي ضحك حتى كاد يغمى عليه وقال يا مجنون أتريدني أن أشرح الصقر في المطبخ ولا على السطح هذا الأمر لا يستقيم علمياً، سنحفظه في الفريزر عندي وغدا سآخذه معي للعيادة واستعين بمتخصص في الطيور ونشرحه ونعلمك بالنتائج فقبلت على مضض وعدت أدراجي إلى البيت ونفسي معلقة بذلك الصقر الصريع.

في اليوم التالي لم أشأ أن أكون رجلا لحوحاً أكثر من اللازم فلم اتصل بالطبيب وانتظرت مكالمته ومر اليوم وفي اليوم الثاني لم أصبر على الانتظار اتصلت بالرجل فأجابني بصوت باح ومعتذر بأنَّه أنشغل ونسي جثمان الصقر في الثلاجة ووعدنني أن ينجز ذلك العمل في اليوم التالي ومرت الساعات حتى عصر اليوم التالي فحضرت للبيت فادخلني الرجل لمجلسه وقدَّم لي واجب الضيافة العربية الأصيلة وبعدها ارتفعت حواجب الطبيب وتغيَّرت معالم وجهه وقال لي بصوت هادئ... نأسف يا صديقي فأنا لم أخبر أم العيال عن أمر الصقر فطبخته لنا على الغداء بالأمس تحسبني اصطدته من البراري، فقد كنت صياد طيور ماهر في بلادي، فقلت له كيف تأكلون الجوارح، فقالت لي السيدة المنزوية في أطراف المجلس لم نجد له مخلبا ولا منقارا........... فقلت في نفسي ربما كان صقرا وتغير إلى حمامة في ثلاجة صاحبنا.......

حفظ الله مولانا جلالة السلطان وأدام عليه الصحة والعافية والعمر المديد .    

 

alikafetan@gmail.com