الوظيفة .. أمانة ومسؤولية

 

د.صالح بن سعيد بن هلال الحوسني

قال المدير: سألت الموظف الذي لم يحضر لعمله عن سبب غيابه فقال: أخذني النوم ونهضت متأخرًا فلم أحضر، فبُهت من عذره الذي ذكره لتخلفه عن عمل يوم كامل، وهو أنَّه نام ونهض متأخرا فلم يكلف نفسه محاولة اللحاق بعمله والوصول إليه، لعله يتدارك شيئًا منه؛ بل كأن الأمر بسيط ولا بأس به، وكأن النوم مسوغاً لترك العمل الذي يتقاضى بسببه مالا يطعم به نفسه وأهله، وأنه لا بأس بترك العمل ما دام العذر كبيرًا كالنوم مثلاً.

وفي المقابل جاءني موظف قام بعمل أُعطي بسببه مالاً ولكن يرى أن جزءًا من المال لا يستحقه ويُريد إرجاع المال إلى الجهة التي منحته فأكبرت فيه أمانته وورعه، واحتياطه في أمور دينه، وخاصة في أمر المال، وأصبحت تلك الزيادة البسيطة جداً هماً يؤرقه ويزعجه لا يستطيع بسببه الجلوس، فهناك نار الضمير تشتعل بين جوانبه، فأصبح لا يجد لذة، ولا يشعر بسعادة إلا بإرجاع تلك الريالات البسيطة إلى مكانها وأهلها رغم أنه لو أراد أن يجد لنفسه عذرا في استبقاء المال لوجد الكثير من الأعذار والمسوغات والمبررات التي قد يُرضي بها نفسه.

إذن نحن الآن أمام قضية كبيرة تستدعي منِّا وقفات طويلة لبيان سبب عدم اكتراث بعض الناس بأعمالهم، وكأن تلك الأموال التي يُعطى إياها في نهاية كل شهر هي حق ثابت له لا تقبل النقاش أو الجدال، أو كأنه قد ورث تلك الأموال من أبيه أو قريبه فهو يأخذها بدون أي نقاش وكأنها من المسلمات، وعليه فلا يهم أحضر أو غاب، أحسن أو أساء، تأخر أو تقدم، أنجز أو لم ينجز فهذه قضايا ثانوية لا تدخل في صلب الموضوع، ولا تؤثر في حكم القضية عند هؤلاء.

وهذه المسألة لها آثارها السيئة على الفرد والمجتمع، فهي وإن وقعت من أحاد الناس إلا أن تأثيرها على المجتمع بأسره سيئ للغاية، فهي تفريط في الأمانة التي عرضت على السماوات والأرض والجبال فأبين جميعا حملها وحملها الإنسان، والتي هي من جملة ما يؤمر الإنسان بالاحتياط فيه وتسليمه لأهله، وهي التي إن ضيعت فهو علامة على قيام الساعة، كما قال عليه الصلاة والسلام: "إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة".

والأمانة ليست كلاماً يُقال أو شعارا يرفع بل هي صفة راسخة في الإنسان تحمله على إعطاء الحقوق الواجبة للآخرين بدون تأخير أو نقصان، وهي مما يجب أن يغرسه الآباء والمربون في نفوس أبنائهم منذ نعومة أظافرهم لينشأوا على الفضيلة والأمانة والصدق ونحوها من خلال الخير.

وعليه فينبغي أن يهتم الآباء والأمهات بذلك بداية باتصاف الآباء والأمهات بخلق الأمانة حتى يسير الأبناء على نهج الآباء، وليجتنب الآباء والأمهات أن يضعوا أنفسهم في كل ما من شأنه أن يفسد هذا الخلق العالي خاصة في حال ظهور ذلك أمام أبنائهم فالابن يرى في خلق أبيه شارة الكمال، ونهاية التمام والوفاء في الأخلاق والخلال، فيحسن في نظره ما يراه من قول أو فعل شاهده من أبيه أو أمه.

وبجانب ذلك لا بد وأن يهتم المربون بغرس خلق الأمانة في نفوس الناشئة من خلال بيان عظمة الله وقدرته في خلقه، وأنه مطلعٌ على السر وأخفى، والدقيق والجليل، والظاهر والباطن، فلا مجال لأي مدخل من مداخل الاحتيال والتصنع على رب العالمين، فهو الخالق القدير الخبير العليم الذي يعلم السر وأخفى.

وهنا لابد من توجيه أبوي قائم على مراعاة الآداب الإسلامية في التعامل مع الآخرين مع إعطاء الأبناء الثقة في أنفسهم فلا إرهاب ولا قسوة في التعامل تدفع إلى التهاون في الأمانة، والتستر بالمخادعة والمداهنة التي تنشأ بسبب الضغوط النفسية ونحوها، مع وجود علاقة حميمة بين الآباء والأبناء.

وفي المُقابل لابد من توجيه أبوي لمتابعة المقصر والمتهاون الذي لا يكترث بهذا الخلق القويم، وعقوبته في حال عدم استجابته للنصح والتوجيه، وتقليب صور التوجيه والتربية نحوه، لأن الولد تنطبع فيه الأخلاق من خلال التوجيه والتعليم منذ صغره، ويشيب على ما شبَّ عليه.

وينبغي للجهات الرسمية أن تضع من التشريعات والنظم ما يُعين على نشر خلق الأمانة بنشر المواعظ والأمثال والحكم واستغلال وسائل الإعلام في ذلك حتى يصبح هذا الخلق هو السائد بين النَّاس، بجانب سن التشريعات والقوانين التي تعاقب المقصر وتردعه عن خطئه وتجاوزه خلق الأمانة ليصبح الردع الخارجي مصاحباً للردع الداخلي ولينشأ مجتمعنا مجتمعًا سليمًا معافى من كل صور الخيانة الخطيرة.

تعليق عبر الفيس بوك