في مسألة الاجتهاد التفسيري للقرآن الكريم

عبدالله العليان

في كتابه "القرآن.. محاولة لفهم عصري"، ناقش د. مصطفى محمود -في هذا الكتاب ذائع الصيت- الكثيرَ من القضايا الدينية والعلمية والفلسفية. ومن هذه الموضوعات التي ناقشها في الكتاب: "المعمار القرآني"، و"قصة الخلق"، و"الجنة والجحيم"، و"العلم والعمل"، و"أسماء الله"، و"الحلال والحرام"، و"البعث"، و"الغيب"...وغيرها من الموضوعات التي طرحها في هذا الكتاب.

ويقول في أول فصول هذا الكتاب "التفسير العصري للقرآن الكريم": "كان أول لقاء لي مع القرآن وأنا في الرابعة من العمر، طفلا أجلس في صفٍّ بين عدة صفوف في كُتَّاب الشيخ محمود، أحملق في بلاهة إلى سبورة وإلى مُؤشر يتحرك في يد الشيخ على كلمات منقوشة بالطباشير وهو يتلو: "والضحى والليل إذا سجى"، فنردد خلفه في آلية: "والضحى والليل إذا سجى". لا نفهم من الكلام حرفاً، ولا نعلم ما الضحى، ولا كيف سجى.. ولكننا نردد مجرد مقاطع ومخارج حروف. وكان عقلي آنذاك صفحة بيضاء نقية لم يُكتَب عليها شيء، ولم تتلق تأثيراً تربويًّا خاصًّا، فقد نشأت في أسرة كل فرد فيها متروك لحاله، يحب ما يحب، ويكره ما يكره، ويلعب حتى يشبع لعباً، وأذكر أني رسبت في السنة الأولى ثلاث سنوات دون أن أتلقى تعنيفاً.. وكان الصفر بالقلم الأحمر يزين كل صفحة من كراساتي مرة بعد مرة فلا يثير إلا الضحك. وكانوا إذا سألوني ماذا أخذت اليوم، كنت أقول اختصاراً للمهزلة وحتى لا أعود إلى شرح حكاية الصفر اليومي التي أصبحت بالنسبة لي مملة، كنت أقول: "زي العادة"، وكانوا يضحكون .هكذا كانت تجري الأمور في بيتنا، لا إرغام على مذاكرة ولا قهر على تدين، وإنما لكلٍ حياته، وعلى كلٍ تبعته. لم نعرف غسيل المخ الذي عرفه كثير من الأطفال في أسر متزمتة تحشر العلم والدين حشراً في عقول أطفالها بالكرباج والعصا. كنت إذن أتلقى أول عبارة من القرآن بذهن أبيض تماماً ودون تأثير مسبق مثلما أتلقى دروس الحساب والجغرافيا والإنشاء. وكما بهرتني حكاية الكرة الأرضية المدورة والقارات كالجزر سابحة فيها، وكما بهرتني حكاية القمر يدور حول الأرض، والأرض حول الشمس، والكل معلق في السماء، كذلك فعل بي القرآن شيئاً. وأحار في وصف الشعور الذي تلقيت به أول عبارة من القرآن. ولا أجد الكلمات لتشرح هذا النوع من الاستقبال النفسي الغامض، وكيف كانت الكلمات تعود من تلقاء نفسها فتراود سمعي وذاكرتي وأنا وحدي فأراني أردد بلا صوت "والضحى والليل إذا سجى". وتقتحم عليّ العبارة القرآنية سكون طفولتي فأتذكر في ظلام الليل إلقاء الشيخ وهو يردد: "وجاء من أقصى المدينة رجلٌ يسعى"، تسعى العبارة إلى خيالي وكأنها مخلوق حي مستقل له حياته الخاصة. وقطعاً أنا لم أكن أعلم ما الضحى ولا كيف سجى الليل.. ولا من هو الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى. نعم.. لقد اكتشفت منذ تلك الطفولة البعيدة دون أن أدري حكاية الموسيقى الداخلية الباطنة في العبارة القرآنية. وهذا سر من أعمق الأسرار في التركيب القرآني.. إنه ليس بالشعر ولا بالنثر ولا بالكلام المسجوع.. وإنما هو معمار خاص من الألفاظ صُفَّت بطريقة تكشف عن الموسيقى الباطنة فيها".

لكن ومع الزمن، عرف الكثيرون من الناقدين أن د. مصطفى محمود، مخلص لهذا الدين، واستطاع، بهذه الآراء التفسيرية، أن يجذب الشباب إلى الدين، من خلال ربطه بالعلم، وبالظواهر الكونية، ولكن ما الذي قاله مصطفى محمود وأزعج إسرائيل؟ ولماذا هذا الانزعاج؟ فالإنسان في كثير من الأحوال خاطئ، والقرآن هو الكتاب الوحيد الكامل كما قال الله ورسوله، وهو الذي يؤخذ منه ولا يرد أو يجادل، ولهذا فقد فسرت بعض آيات وسور من القرآن وخرج فى كتاب تحت مسمى "القرآن تفسيرا عصريا"، ولكن واجه نفس مَوْجَة الاعتراضات والتكفير وكانت هذه هى السمة الغالبة والموجودة دائما تجاهي من المشايخ، فهم لا يريدون أن ينافسهم أحد، وبالطبع لم يفهمه البعض، وأخذوا المعنى خطأ، وقد كنت أتكلم فيه حول قضية أن القرآن في كل عصر يفض مكنونا جديدا. ومن أجل هذا نقول إن القرآن لا ينتهي فيه كلام، فهو ليس مثل أي مقال يكتب ويبرز مضمونه بعصره ولا يقرأ بعد ذلك، ولكن القرآن مضمونه ثرى وغنى جدا، ففي كل عصر يُعطى لك معنى جديد، وأيقنت أن الطريق إلى الله وفى رحابه هو خير الطرق وأن اللجوء إليه هو أعظم وأجل ودائما كان يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في دعائه: "اللهم بك انتصرت اللهم بك أصول اللهم بك أجول ولا فخر لي"، فهو يعتبر في كل حركة بالله سبحانه وتعالى ثم يأتي الرسول في دعائه، ويقول: "اللهم إني أعوذ بعفوك من عقابك اللهم أعوذ برضاك من سخطك اللهم أعوذ بك منك". وقد نتساءل عن عبارة الدعاء الأخيرة، وهى: اللهم أعوذ بك منك، وتقول كيف؟ وفى هذه المقولة كنت أفسر أن الذي خلق الشيطان هو الله سبحانه وتعالى وهو أيضا خالق الميكروبات والسرطانات والموت وهو مفجر البراكين والزلازل وهو الضار النافع، فبدلا من أن يقول أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، يقول أعوذ بك منك لا أحد غيره لأن الشيطان ما هو إلا جند من جنوده، ومخلوق من مخلوقاته، وبنفخة من الله يطير، وهذا في حد ذاته منتهى التوحيد، وما خرج كتابي يحمل هذه المعاني إلا وظهرت موجة جديدة من التكفير تطاردني، بعد أن كانت اختفت لبعض السنوات، وطالبت نفس الفرقة بتكفيري وإعدامي، بالرغم من أنَّ هناك فئة اقتنعت بتلك التفاسير وكانوا علماء في مجال التفسير.

لذلك؛ فإنَّ د. مصطفى محمود لعب دوراً رائداً في إعطاء مفاهيم ورؤى في التفسير، قد لا يتفق معه البعض، لكن يظل هذا اجتهاداً مخلصاً منه، لتقريب الكثير من المفاهيم التي تتقارب مع روح العصر.