د. صالح الفهدي
تشكيل المستقبل
الماضي هو المكوِّن المتراكم لتاريخنا، وثقافتنا، بل والمساهم في طُرق تفكيرنا، وعاداتنا، وأساليب معاشنا، فبقدرِ ما نجلُّهُ ونقدِّره بقدرِ ما نكتسبُ التوازن في شخصياتنا، والثقة في قرارتنا لشعورنا بأننا نسمقُ من قاعدةٍ ذات أصالةٍ في القيمِ، والمنجزات التاريخية المجيدة، والمواقف المشرّفة، والمبادئ القويمة الواضحة.
ولا شك أن الاستلهام من الماضي، والنظر الرفيع إليه يعدُّ من صميم تكوين الشخصية الأصيلة التي لا تدير الظهر لماضيها، ولا تنفصلُ عنه بحكم امتداد الهُويةِ التي وإن تجددت عناصرها، إلا أنَّ لها من الخصائص والسمات ما هو راسخٌ ومُتناقل.
إنَّما الإشكالية تكون حين يصبح الماضي "دندنة" ترددُ لاستدرار الأشواق على "أيامِ زمان"..! و"أنشودةً" تشغلُ المُهج في التغني بها ليلَ نهار..! ضرر هذه الإشكالية أنها تُلهي عن الانشغال بالمستقبل وهو الأهم في سياق الزمن، ومراحل العيش. المستقبل هو الذي يواجهنا لا الماضي، ولا يمكنُ لمن يتقدم بخطواته إلى الأمامِ أن يدير رأسه للخلف..! هذه صورةٌ أشبه بالخرافةِ، وأبعدُ منطقيًّا عن الواقع؛ لأنَّنا لا نتحدثُ عن نظرٍ يرى الطريق ويترسم خطاهُ في الطريقِ الذي أمامه وحسب، بل نقصدُ عقلية حاضرة تترسم أهدافاً وطموحاتٍ عليها أن تصل إليها بخطًى معدودة ووفق اتجاهٍ وموارد معينة.
ليس من الحصافة لأي شعبٍ أنْ يَظلَّ رهيناً لماضيه مهما كان هذا الماضي حافلاً بالمنجزات، والبطولات، بل يُحتِّم عليه منطق الحصافة أن يتخذ من هذا الماضي ركاباً ينطلقُ به نحو المستقبل الذي لابد وأن تكون له صورةٌ أخرى تتماشى مع الصورة العامة التي رسمها العلم ومحدثاتهِ، والفكر ومخترعاته للقرن الواحد والعشرين وما يليه.
الشعوبُ التي أدركت هذه الحقيقة وضعت لها أهدافاً بعيدة المدى قد يكون أقربها منتصف القرن الحالي 2050، من أجل أن تظل متعلقة بأهدافٍ عليا تشكل تحدياً حضاريًّا بالنسبةِ لها، وتجعلها تنظرُ عالياً إلى هذه الأهداف، موظِّفةً الموارد، ومهيِّئة الإنسان لتحقيقها، بل وراسمةً الأسس الفكرية والثقافية التي يجب أن تسود المجتمع كاملاً ليتقبل حقيقة سعيه إلى هذه الأهداف الطموحة.
إنَّ الشعوبَ التي تعيشُ من أجلِ قوتِ يومها، وترديد أسطوانة الماضي، والانشغال بكل ما يتعلق بالماضي بدءاً من الأفكار ووصولاً إلى العادات اليومية هي شعوبٌ لا تتقدم خطوة واحدة نحو ما يضيف إليها تميُّزاً يمنحها ملمحاً بسيطاً لانتمائها إلى حداثة العصر..! لهذا؛ فإننا قد مررنا على قصص لأفرادٍ طموحين رأوا أن وجودهم في بيئاتٍ معينة معيق لنمائهم ولطموحاتهم، فكانت أولى قرارتهم مغادرة تلك البيئات إلى أُخرى تتسم بالتحفيزِ والدافعية. أو آخرين استطاعوا أن يغيروا من نمط تفكيرهم المخالف للسائدِ من التفكير.
الشعوب التي تقيد نفسها في رَسَن ماضيها، وتلصق سفنها بموانئ الحنين والشوق إليه، لن تمتلك القوة والشجاعة -فضلاً عن الطموحات- التي تدفعها إلى تغيير نمطِ عيشها، ووسائله. في ماليزيا، وبعد بناء أبراج "بتروناس" التي كانت أعلى أبراج العالم خلال فترةٍ من الزمن، سأل العالم الراحل أحمد زويل رئيس الوزراء الماليزي آنذاك مهاتير محمد عن الأسباب التي دفعته لضخ أموالٍ هائلة لبناءِ هذه الأبراج في وقتٍ كانت الدولة بحاجةٍ إلى هذه الأموال؛ من أجل التنمية والإعمار في قطاعاتٍ مختلفة، فكانت إجابة مهاتير محمد عميقةً، وذات دلالةً للفكرِ الحصيف الذي يرى به هذا القائد المستقبل والوسائل التي يمكن بها تغيير ثقافة شعبٍ متخاملٍ، وعاجزٍ كما وصفه في كتابه "Malay Dilemma" إلى شعبٍ يتطلع إلى المستقبل بحماسةٍ، وشغفٍ.. قالها عبارةً ما أعظمها: "لقد أدركتُ أن الشعب الماليزي قد فقدت الثقة في نفسه، وهذا أدى به للنظر نحو أسفل قدميه، فأردتُ أن أجعلهُ يرفع رأسه عالياً بطول هذه الأبراج السامقة، من أجل أن يفتخر بوطنه، فيستعيد الثقة في نفسه"..!
ما أروعه من تفكيرٍ لقائدٍ يعد من أعظم القادة السياسيين والاقتصاديين في تاريخ آسيا. لقد فطن إلى جوهر التغيير، والوسيلة التي تحققه في النفسيات التي شابها الوهن، والخور، والضعف. يقول مهاتير محمد: "إنَّ حركة التغيير هي إحدى السمات الإيجابية في المجتمع البشري الذي لا ينتهي إلى سكون في يوم من الأيام، بل يتبدل ويتغير باستمرار، وعلى المسلمين مواكبة تيار التجديد لضمان النجاح في الحياة".
... إنَّ الانشغالَ الأكبر بالماضي، وعدم منح النصيب الأكبر من الوقت والانشغال العقلي بالمستقبل، قد أنتجَ وسبَّب الكثير من معوقات التنمية؛ فعلى صعيد التنمية الإنسانية أنتج إنساناً لا يفكر إلا في يومه، كيف يعيشه، وماذا في جيبه كي ينفقه عليه، ولا يكاد يفكر أبعد من ذلك..!
وعلى صعيد التنمية الوطنية، أنتجَ عقليات هامدةً، خامدةً، لا يعنيها التغيير نحو الأفضل، فهي تعيشُ في نمطٍ من العيش لا تريدُ أن تغادره لأنها تخشى الخوض في المغامرة، وتخاف من التجربة، وهذا يعني أنها لا تجرب الخيال و"الخيالُ اقوى من المعرفة، فعن طريقه نستطيع رؤية المستقبل" كما يقول ألبرت أنشتاين..!
الانشغال بالماضي أوْرَث وَهَناً في النفس، وأبعدَ عنها شغف التنافس مع الذات من أجل التطوير، وسلبها القدرة على الخيال، والقوة على التفكير، والحماسة لإحداث التغيير.
لا توجدُ أمةٌ في الأرضِ تقدمت ثقافيًّا، واجتماعيًّا، وعلميًّا وعمرانيًّا، واقتصاديًّا، وسياسيًّا، إلا بسبب انشغالها بالمستقبل معظمِ وقتها، وتركها الترنُّم بالماضي وبطولاته وإنجازاته. إنه لأمر بديهي أن نمنح المستقبل أغلب وقتنا للتفكير والتخطيط والعمل لأننا نمضي نحوه، وإلا فإننا نجتر صور الماضي، ونعيشُ الذكريات التي نحن لها ونشتاق!
لهذا؛ فإن علينا أن نغير المفاهيم المتعلقة بنظرتنا إلى الماضي إلى مفاهيم أكثر انفتاحاً نحو المستقبل بناءً على المعطيات المنطقية التي يسوقها لنا العقلُ، ويبرزها الواقع دون الحاجة إلى دليل.
علينا أن نتحدَّى أنفسنا بالأهداف العظيمة -أمةً وأفرادًا- من أجل أن نُغيِّر من أنفسنا ونهيئ قدراتنا، ونعد مهاراتنا لتحقيق هذه الأهداف.. لقد أعجبتني مقولة قالها الشيخ محمد بن راشد في كتابه "السعادة والإيجابية": "جاءوني بخطط ضخمة لتوسعة مطار دبي الدولي، اعتمدتها لهم وأمرت بالبدء في دراسة مشروع مطار جديد في دبي أضخم من مطار دبي الدولي، قلت لهم: نحن لا نريد مطاراً لدبي، نحن نريد أن تكون دبي مطاراً للعالم، ووصلت الرسالة وجاءت المخطططات ضخمة تضم مطاراً هو عبارة عن مدينة تضم مئات الأبراج والمباني ويتسوعب عند اكتماله أكثر من 200 مليون مسافر"، لم توقفه الطموحات بعد التفوق على مطار هيثرو صاحب التاريخ العريق، بل وضع هدفاً أكثر تحدياً من أجل مواصلة الطموحات التي لا تقف عند نهاية محددة.
إنَّ انشغالنا الأكبر بتشكيل المستقبل هو المفهوم الذي يجب أن يسود بديلاً عمَّا احتواه الماضي من منجزات، وما تحقق في التاريج من أمجاد. تبني هذا المفهوم هو الذي يضمن لنا تشكيلاً واقعياً للمستقبل وليس أي شيء آخر، يقول بيتر دراكر: "لا يتعامل التخطيط طويل المدى مع القرارات المستقبلية، بل مع مستقبل القرارات الحالية".