في العلاقة الجدلية بين البرلمان والجمعيات السياسية

 

 

عبيدلي العبيدلي 

 

تتميز تلك المجالس الرمضانية البحرينية التي تقتصر على مجموعة معينة من فئات محددة بطغيان الحوارات السياسية على سواها من الموضوعات الأخرى، اجتماعية كانت تلك المناقشات أم اقتصادية. ويحظى البرلمان البحريني الحالي بحصة الأسد منها. وتتفاوت هذه النقاشات بين حدة من يساهم فيها بين مشدد على عدم جدوى البرلمان الحالي، الذي تحول اليوم - حسب رأي هؤلاء - إلى عبء اقتصادي يثقل كاهل الدولة التي بدأت في نقل جزء منه إلى المواطن، الذي يئن تحت أكلاف شهرية متكررة، ومتنامية في آن، تبدأ بأقساط المدارس الخاصة، ولا تتوقف عند متطلبات قضاء الإجازات السنوية في إحدى دول العالم، وبين آخر يرى ضرورة استمرار البرلمان كمؤسسة تشريعية، فهي تبقى في نهاية المطاف الرئة الأقوى التي يتنفس منها شعب البحرين سياسيا،  في إطار الحقوق التي يبيحها دستور البلاد والقوانين المتفرعة منه.

يستعين من يدعو إلى وضع حد للبرلمان ببعض ممارسات أعضائه، ممن- كما يقول أعضاء هذا الفريق- حولوا البرلمان البحريني من أداة تشريعية إلى "صالة وجاهة" تعينهم على تعزيز مكانتهم الاجتماعية، ضاربين عرض الحائط بالكثير مما جاء في برامجهم الانتخابية التي اكتظت موادها بوعود كثيرة لم يوف من تبناها بالشيء الكثير منها.

يقف في صف هؤلاء من يعتبر البرلمان أداة تسيرها الدولة بشكل غير مباشر، ومن ثم فلماذا الاستمرار في وهم إعطاء البرلمان كمؤسسة، وليس كأفراد، دورا لا يستطيع أن يمارسه.

 

البعض الآخر يصر على أن تطور البرلمان كمؤسسة وارتقاء أداء النواب كأفراد، ليس قرارا فوريا قابلا للتنفيذ على الوجه الذي يتمناه أي من الذين انخرطوا في العملية الانتخابية البرلمانية، بقدر ما هو عملية تراكميّة تتطور بشكل تدريجي، كي تكمل دورتها التاريخية التي تؤهلها إلى إحداث النقلة النوعية المطلوبة التي تحول البرلمان إلى غرفة تشريعية تمارس دورها الذي نص عليه دستور البلاد، ويمثل طموحات المواطن. 

ويستعين كل طرف من الأطراف بالأمثلة التاريخية من تجارب بلدان أخرى يعزز من خلالها وجهات نظره، ويروج في آن للدعوة التي يتخندق وراءها.

الملفت هنا، وهو ما يدعو إلى الاستغراب أيضا، هو غياب البرلمان كمؤسسة، وبعض النواب - كي نتحاشى التعميم الذي يظلم النسبة الضئيلة، إذا ما وجدت - كأفراد عن هذه النقاشات، وكأن الأمر لا يعنيهم في شيء، بل ربما نشاهد بعض الحالات التي تعكس تغاض متعمد، غير منطقي من لدن بعض النواب يتمثل في تحاشٍ ملحوظ من الدخول في مثل هذه النقاشات.

في البدء لا بد من الانطلاق من مجموعة من المسلمات الرئيسة حول المسألة البرلمانية، يمكن تلخيصها في النقاط الأساسية التالية:

 

1.       أن السلطة التشريعية، كمؤسسة، مهما جرى تضييق صلاحياتها، تبقى في نهاية الأمر ركنا أساسيا من أركان هياكل المجتمع ومؤسساته المدنية. وأنه مهما بلغت هذه المؤسسة من ضعف دب في بدنها، سواء بفضل قوانين وأنظمة بنائها، أو بحكم ضعف من ينالون عضويتها، فإن ذلك لا يمكن ان يرقى إلى سبب يدعو إلى شطبها من قائمة تلك المؤسسات. 

 

2.       أن البرلمان، شأنه شأن السلطات الثلاث الأخرى: التنفيذية، والقضائية، والصحافة، يمر بمراحل مختلفة من الصعود والهبوط، عند الحديث عن قدرة أي منها على القيام بالمهام المناطة بها. وعليه فإن التراجع ينبغي أن يتحول إلى مدعاة لإصلاح أي من تلك المؤسسات، بدلا من المناداة بتصفيتها. وكي نكون أكثر وضوحا ينبغي علينا أن نملك الشجاعة مع أنفسنا كي نجيب على سؤال مركزي يقول هل بإمكاننا تصور البحرين دون مؤسسات للدولة، مهما بلغت حدة انتقادنا لأدائها، أو مجردة من قضاء، بغض النظر عن ملاحظاتنا بشأن درجة نزاهته، وأخيرا هل بوسع المواطن البحريني أن يرشف قهوة الصباح دون ان يتصفح الجرائد البحرينية، بغض النظر عن مآخذه على موادها، وآلية نقل الأخبار التي تأخذ بها؟

 

3.       من الخطأ، بل ربما الخطورة بمكان، الوصول إلى موقف من الأداء البرلماني مبنيا على فترة زمنية قصيرة. فالبرلمان كائن متحول يتطور ويرقى عبر فترة زمنية، تطول أو تقصر بحكم التطور الحضاري للمجتمع الذي يقوم فيه. والأشد خطورة من ذلك عندما نصل إلى نتيجة تحدد الموقف من البرلمان بشكل معزول عن مؤسسات المجتمع الأخرى، بما فيها منظمات المجتمع التي تعد أحد الروافد الرئيسة التي تعتبر – في البلدان المتحضرة – الخميرة التي تنضج فيها العناصر التي بوسعها ان تمد البرلمان بالأعضاء الذين يستحقون الانتساب إليه، ضمن مقاييس صارمة وآليات دقيقة.

لكن لو تجاوزنا تلك المقولات العامة التي يفترض أن تشكل خلفيات راسخة عند الحكم على أي برلمان، ورجعنا إلى النقاشات الدائرة اليوم على ساحة المشهد السياسي البحريني، فستقف أمامنا منتصبة ومتحدية إشارة حمراء فاقعة تؤكد أن أحد أسباب شيخوخة البرلمان الحالي، دون التعرض الشخصي لأي من السادة النواب، إنما يعود في جوهره وصلبه إلى الغياب التام للعديد من الجمعيات السياسية التي مارست دورا إيجابيا في دورات البرلمان السابقة، بما فيها تلك التي لم توفق في إيصال مرشحيها إلى العمل تحت قبة البرلمان.

لقد أحدثت فترة النشاطات السياسية التي ترافق العملية الانتخابية حراكا سياسيا ناضجا ومثمرا ساهم في نقل الوعي السياسي لدى المواطن البحريني خطوات إلى الأمام على طريق التحول نحو المجتمع الأكثر "تمدنا"، بالمعنى الحضاري لتعبير "التمدن".

مصدر ذلك هو تلك العلاقة الجدلية والتأثير الإيجابي المتبادل بين التطور الذي ننشده في الجمعيات السياسية، والارتقاء بأداء السلطة التشريعية، فكلما كانت الجمعيات أكثر نضجا على الصعيد السياسي، كلما كان أداء البرلمان أكثر رقيا على المستوى التشريعي، والعكس صحيح أيضا، فكلما ازداد أداء البرلمان رشدا، كلما أفرزت الجمعيات مرشحين أكثر نضجا.

هذه العلاقة الجدلية الإيجابية تتطلب من الجميع، مواطنين ودولة، احتضان الجمعيات السياسية، وخاصة تلك التي تأسست بعيدا على أي ركائز تشوه مقومات المجتمع المدني، وتزيف إرادة منظماته، وتعزيز دور البرلمان والأخذ بيد أعضائه في عملية تكاملية تضمن استمرار الجمعيات السياسية في أداء عملها، وتحرص على فعالية مميزة للبرلمان عند الحديث عن رسالته.