ثقافة الإنفاق

 

فوزي بن يونس بن حديد

 

خُلق الإنسان وجُبل على حبّ المال بنص الآية الكريمة "وتحبّون المال حبّا جمّا" وفي الآية الأخرى "وإنّه لِحُبِّ الخير لشديد" وفسّر العلماء الخير بالمال زينة الحياة الدنيا، وحينما جرى المال على يدي الإنسان في الدنيا غوى، وعبث بنعمة الله سبحانه وتعالى عليه، وبخل على أخيه الإنسان، ومن رحمة الإسلام بالعالمين أن شرع العدل والقسط بين الناس فشرع لهم ما يغني الفقير عن الحاجة والسؤال وأوجب على الغني الزكاة طهرا له، وتنمية لماله من حيث لا يدري وبركة له في عمره وعياله، ورفعا للبلاء الذي قد يصيب الإنسان إذا زاغ عن الطريق ولم يتبع الهدى.

وللإنسان ملكات ونوازغ ووساوس تدفعه للحيد عن الطريق، فيسرف على نفسه أنواع الشهوات ويبذّر المال تبذيرا، ولا أدل على ذلك موائد الطعام في رمضان وما يُلقى في القمامة من كل نوع، وسوف نُسأل عن هذا النعيم يوم القيامة "ولتسألنّ يومئذ عن النعيم"، لا نلقي بالا لما نرميه في الحاويات، بينما ننسى أو نتناسى حق الفقراء والمساكين والمحتاجين والمكلومين، وربما كان عسيرًا علينا أن يدخل أحدنا يده في جيبه وينقذ عائلة من شبح الجوع والفقر المدقع، ورغم التحذير والوعيد الشديد من التبذير والإسراف طوال أربعة عشر قرنا من الزمان إلا أنّ الإنسان ما زال يجنح لذلك، فهو يتصور إن ذاق الجوع أنّه سيلتهم كل ما هو موجود على مائدة الطعام، وبمجرد أن ينتهي من النوع الأول تنسد معدته ولا تقبل الثاني فيتركه إلى بعد قليل لعله يرجع إليه، وإن رجع إليه فلا يأكل منه إلا قليلا، لأنّ معدته لا تقوى على تحمله.

ولأنّ الإنسان بطبعه يميل للتبذير والإسراف فقد نهى الإسلام عن تضييع المال لأنّه أمانة ائتمنك الله عليها، فإن ضيّعتها ضيعك الله وإن حفظتها حفظك الله، ولا يعني ذلك أن يقتر المسلم على نفسه وعلى عياله، فالله عزّ وجل يحبّ أن يرى أثر نعمته على عبده ولكن ينفق بقدر، كما نهى كذلك أن يوصي المرء بأكثر من الثلث من ماله حتى لا يصير ورثته عالة على الناس، وأمر المسلم أن يسير وفق ما لديه فلا يثقل نفسه بالدَّيْن من أجل شراء سيارة فارهة أو بناء منزل فخم أو يشتري ما وقعت عيناه عليه وهو غير قادر عليه، وبعد ذلك يشكو من كثرة الديون ويدعو الله عز وجل أن يقضي له دينه أو يطالب الدولة بقضائه وهو عاجز عليه.

فالإسلام دين واقعي، أمر المسلم أن يكون حكيمًا، وأن يصبر على نفسه، ويقنع نفسه بما لديه، فالقناعة كنز لا يفنى، ولذلك نزلت الآية الكريمة  بردا وسلامًا على قلوب المؤمنين "ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا" فالتقتير والتبذير منبوذان في الإسلام لأنّ الشح والبخل وإن كان فيهما كنز للمال إلا أنّهما يورثان الكره والبغض ولا يستفيد صاحب المال في حياته ولا يتمتع ولا يستمتع به يراه أمامه مكنوزا ويربأ بنفسه أن يأخذ منه ما يستحق، والبخيل حرم نفسه من جنتين، جنة الدنيا فيستمتع به وجنة الآخرة حينما رفض أداء واجبه، وأمّا التبذير والإسراف فقد يجعلان المرء فقيرًا في اليوم الأسود حين يحتاج إلى المال فلا يجده فيضطر إلى الاستدانة من الناس.

فالإنفاق في أوجه الخير الكثيرة مطلوب ومرغوب ولكنّه يجب أن يكون موزونا، لا يجوز أن يخلّ بالقواعد الأساسية للحاجيّات، وفوائده كثيرة قد لا يشعر بها المرء في الحال، فرَفْع البلاء وحده نعمة كبرى من نعم الله التي لا تعد ولا تحصى، ونعمة الصحة والعافية والبركة في المال والولد، والطهر في النفس وتزكيتها وحبّ الناس وربّ الناس، كلها نِعَمٌ تجنيها من الإنفاق حتى لو كان على نفسك ولكن بمقدار.

تعليق عبر الفيس بوك