"عبودية" الوظيفة

 

علي بن مسعود المعشني

الموظف - ومهما كان مسماه ومرتبته- يسمى ويعد أجيرًا، أي أنّه في خدمة هذا القطاع أو ذاك وفق عقد وشروط لتأدية عمل ما وبمقابل مالي، وبما أنّ الموظف أجير فهو أقرب إلى العبد حيث يفقد هامشا كبيرا من حريته في سبيل الوفاء بعقد عمله.

لهذا نجد أنّ لب الإدارة اليوم وفن القيادة في إبراز الوجه الإنساني للإدارة والقيادة بترك هامش حركة وفكر للموظف كي يشعر بأنّه شريك بالمؤسسة وليس أجيرا لديها فاليوم مثلًا نسمع عن الوقت المرن في الدوام والذي يلزم الموظف بتأدية العمل لعدد من الساعات في اليوم أو الأسبوع دون تحديد وقت لها أي المحاسبة على الإنتاج وليس التواجد في مقر العمل، كما تنتهج بعض المؤسسات أسلوب تقييم أداء الموظف وإنتاجيته من أي موقع كان وحيث يشعر الموظف بالراحة والرغبة والمتعة في العمل.

وفي مقابل الوظيفة شاع مصطلح العمل الحر، والعمل الحر بطبيعة الحال يتعدد ما بين التجارة المستقرة والتجارة المتنقلة والتجارة الموسميّة، وبين الخدمات التي يقدمها الفرد للمجتمع من واقع تخصصه أو خبراته كالطبيب والمهندس ومصمم المواقع وشريحة الحرفيين من خطاطين ونساجين ورسامين ومن في حكمهم.

العمل بطبيعة الحال ينتج عن ثقافتين، ثقافة فكرية ناتجة عن تعليم تخصصي أو مهارات ومواهب بالتوارث والخبرة منها فكري ومنها عضلي.

من يتسلّح بتخصص مرن قابل للوظيفة والعمل الحر معًا أو يكتسب مهارة أو حرفة تعيله، يعيش حرًا وبنفسية مستقرة وعالية وأكثر توق للحرية وتقديرًا لها.

تحضرني نماذج مختلفة لمن اختاروا العتق من عبودية الوظيفة والاعتماد على العمل الحر كمصدر دخل لهم. فصديقي يوسف وهو بريطاني مسلم يقيم في إحدى ضواحي لندن يمتهن الترجمة من العربية للإنجليزية والعكس، والتي اكتسبها من سنوات عمله ببعض أقطار الخليج، لذا يقدم يوسف خدماته ويعرضها على الشركات البريطانية التي تتعامل مع الوطن العربي، والتي تحتاج بطبيعة الحال إلى ترجمات لملصقات منتجاتها ومطويات الترويج وعقود العمل والمراسلات بينها وبين المستوردين في الوطن العربي، حيث يتواصل يوسف بشكل دائم مع زبائنه عبر البريد في السابق واليوم عبر وسائل التواصل الاجتماعي والتقنية المعاصرة.

جاري سعيد يمتلك شاحنة كبيرة قاطرة ومقطورة يقودها ويصينها بنفسه، وقد بقيت له شاحنته المفضلة بعد أن قرر حل شركة النقل الخاصة به نتيجة مشكلات فنية وإدارية والحاجة إلى المتابعة الحثيثة إلى حد الاستنفار أحيانًا لمتابعة حركة الشاحنات وصيانتها وتجديد عقودها... إلخ. يحدثني سعيد عن راحته النفسية واستقراره العائلي بعد أن قرر حل شركته والاحتفاظ بشاحنة واحدة يقودها بنفسه ويختار العمل المناسب له ولوقته ولعائلته.

حيث يقبل سعيد الأعمال بالحجم الموازي للدخل الشهري الذي يخطط له فقط، وفي أغلب الشهور يحرص على توفير دخل ثابت عبر قبول عمل زبائن بعينهم فقط.

كم أنا معجب بهدير محرك شاحنة سعيد فجر كل يوم ليتفحصها ويتفقدها ويجعلها في جاهزية عالية، وليختار العمل المناسب له في الدخل والمسافة يوميًا أو يقرر الراحة بمنزله وبين أفراد أسرته.

اليوم أسمع وأتابع عددا من الشباب ممن امتهنوا التصميم التقني من مواقع وشعارات وتصاميم نماذج دعوات ومناسبات وغيرها، ويعملون من خلال وسائل التوصل الاجتماعي للترويج والبيع والوصول للزبائن، ويحققون دخولًا عالية وهم في وضع عملي مثالي للغاية. أتذكر في عام 1987 وفي زيارة لي لبريطانيا مشاهداتي لبعض الشباب البريطاني وهم يعرضون لوحات فنية جميلة على جنبات الطرق وبالقرب من الحدائق العامة. وقد علمت أنّهم شباب متفرغون للرسم ويقتاتون عليه حيث يرسمون لوحات مختلفة خلال أوقات فراغهم ثم يعرضونها في نهاية الأسبوع ويعيشون من الدخل. فلسفة العمل هي الإنتاج وشعور الإنسان بقيمته في المجتمع فقيمة الإنسان فيما يتقن وقيمة الإنسان فيما يفكر.

قبل اللقاء: يقول النبي الأكرم عليه الصلاة والسلام وآله: رحم الله الأيادي المحترفة (أي التي تقتات من حرفة أو صنعة تجيدها).

كما يوجّه رجل أعمال ياباني نصيحة ثمينة مفادها: حين تبلغ الخمسين من العمر عليك تعزيز ما تتقن والتركيز عليه، فالعمر هنا لا يساعدك على خيارات أخرى.

وبالشكر تدوم النعم.

Ali95312606@gmail.com