د. عبد الله باحجاج
تُحاجج الحكومات الخليجية في تطبيقها لضريبة القيمة المُضافة على وجه الخصوص بكونها تطبق في الغرب، وتجعل من ذلك شرعية تبنيها في منطقة الخليج، دون أن تعتد باختلاف مفهومي الدولة في الخليج وفي الغرب، وربما يكون التلويح بالعد الغربي لدواعي الإقناع، فهل هذه حجة مقبولة؟ وإذا تمَّ تبنيها على أساس التطبيق الغربي، فهل هذه الحجة تعطينا كشعوب خليجية نفس الحق في تبني منتوجات أخرى ناجحة في الغرب، أسوة بها، وهل ستصلح لمجرد الأخذ بعين الاعتبار أنها ناجحة في بيئتها فقط، فما يحق للحكومات، ينبغي أن يسرى على شعوبها كذلك، وإلا تفقد الحُجَّة شرعيتها، وبالتالي رفض قبولها.
الأهم هنا، مدى تلاقي وتقاطع مفهومي الدولة في الخليج والغرب حتى يشكل تبني ضرائب الغرب حُجة لتطبيقها داخل منطقتنا الخليجية؟ نطرح التساؤل الأخير لفك الالتباس الذي يُحيط بتوجه الحكومات الخليجية الست بفرض ضريبة القيمة المضافة في بداية العام 2018، بعد أن اطلعنا الأسبوع الماضي على تصريح لمسؤول خليجي رفيع يبشر بقرب فرض ضريبة القيمة المضافة والضريبة الانتقائية، شارحًا الفرق بينهما ونسبتهما، ومبيناً حجم الزيادة السعرية التي ستطرأ على السلع والخدمات في منطقة الخليج العربية، والمثير في تصريحاته محاولة الإقناع بضريبة القيمة المضافة في الخليج من منظور تطبيقها في أكثر من (150) دولة في العالم بما فيها دول الاتحاد الأوروبي وكندا ونيوزلندا وأستراليا وسنغافورة وماليزيا.
والاستشهاد بالغرب في هذه النظرة الأحادية أو الجزئية فقط، يدفعنا إلى التصدي لتفنيد وتوضيح اختلاف مفهومي الدولة بين الخليج والغرب، وكيف أن المواطنين في الغرب يقبلون مثل هذه الضرائب، وفي الخليج بين رافض ومُتحفظ، وحتى المتحفظين سوف يتغير موقفهم، وينحازون للفئة الأولى عندما تظهر تداعياتها فوق السطح الاجتماعي، ولو فتحنا نافذة صغيرة على الغرب للاستدلال على جوهر الاختلاف الكبير بين المفهومين، فسوف نجد أنَّ الفارق السياسي بينهما بحجم بعدهما الجغرافي بل وبصورة مضاعفة. مثلا.. في الغرب هناك أنظمة دستورية مُتوافق عليها شعبيًا، وفيها سيادة القانون واستقلال القضاء، وفيها كل السلطات العليا تخرج من رحم صناديق الاقتراع، وتمكث في السلطة لمدد زمنية قصيرة، كما إن القوانين بما فيها المالية والضريبية لن تطبق إلا إذا وافقت عليها البرلمانات، وتملك هذه الأخيرة صلاحية الرقابة على الأداء الحكومي وإقالة أي مسؤول وحتى الحكومة بأكملها إذا ما رأى الشعب عبر ممثليه أنها لم تحقق المصالح العليا.
لكن، ما هو الوضع في الخليج؟ الإجابة معلومة بالضرورة، وهي تتناقض شكلاً وجوهرًا مع مفهوم الدولة في الغرب، وبالتالي فإنَّ الانتقائية في تبني منتوج مالي/ ضريبي دون وعائه السياسي، المنتج له، ومدى صلاحية بيئته لتطبيقه، كالذي يزرع في غير بيئته الصالحة له، ومن ثم نتائجه متوقعة، لذلك لن يصنع الاستقرار الاجتماعي في إطار مفهوم الدولة الخليجية التي يراد لها فجأة أن تتحرر بسرعة زمنية فائقة من النظام الريعي المتجذر والعميق في البنية الاجتماعية الخليجية إلى النظام السائد في الغرب. هذا النظام الريعي قد صنع مجتمعاً غنائميًا خارج منظومة الحق والواجب، مجتمعاً ينظر لثروات البلاد الخليجية كغنيمة له إذا ما أتيحت له الفرصة لامتلاكها، وبالتالي، فإنَّ استدعاء النموذج الغربي في تطبيق ضريبة القيمة المضافة أو فرض الضرائب بصورة عامة في الخليج، ينقصه الذكاء، ومن ثم فهي حجة مردودة عكسيًا.
وقد قالت لنا كذلك نخب رفيعة المستوى: ما المانع لمُساهمة المواطن في ميزانية الدولة عن طريق الضرائب ورفع الرسوم واستحداث غيرها؟ وإعادة هيكلة الماء والكهرباء بحجة ما هو سائد في مثل تلك الدول، ومقارنة الزيادة في سعر الوقود بقيمة (الشاورما). إن هذا يعكس لنا أزمة وعي الفاعلين الكبار، وانتشارها فوقيا، واستمرارها حتى الآن، وهنا الخطورة الكبرى.. كيف؟ لأنَّها تلتقي مع عودة المُمارسات الخاطئة، وكأننا لم نمر بإحداث 2011، كما أنَّها تلتقي كذلك مع تعقيدات المسارات الداخلية ومدى تقاطع الأجندة الدولية معها في عصر الضرائب، فهل هناك من يُفكر في مثل هذه الزوايا الحادة؟..
للأسف، مثل طروحات المسؤول الخليجي وكذلك نخبنا بشأن ضرورة تماثل الداخل الخليجي مع الخارج الغربي، تمر بسهولة على المواطن الخليجي البسيط، ويبتلعها بسهولة لحداثته بعصر الضرائب، وضعف ثقافته بها، لكنه في ذاته يعيش حالة استياء تصاعدية بسبب تعقيدات داخله تُضيق على معيشته الخناق، وكذلك بسبب عودة الممارسات الخاطئة لدى النخب الفاعلة، فهو يدخل الآن في دائرة الحيرة والتوهان، فوعيه قد مرر عليه حجية فرض بريطانيا وفرنسا ضريبة القيمة المضافة بنسبة (%20) والصين بنسبة (%17) واليابان (%8) والخليج (5%) في عام 2018، وقد أبدت له هذه الأرقام، بأن خليجنا أقل من تلكم الدول في فرض ضريبة القيمة المضافة. وهذا يبدو كانتصار للدول الخليجية التي راعت من خلاله البعد الاجتماعي، لكنها مراعاة لسنة واحدة، فبعد 2018، سيتم رفع تلك النسبة تدريجيًا، وهذا ليس بيت القصيد هنا، وإنما يكمن في اختلاف مفهومي الدولة بين الجانبين وفق ما أوضحناه سابقا.
إنَّ الاختلاف الجوهري يكمن كذلك في بنية المجتمعات نفسها، خاصة تلك التي لها علاقة بالسلطة، فتطبيق الضرائب من منظور ما هو سائد في الغرب فقط، ينبغي أن تتوحد معه مفاهيم الدولة في الخليج خاصة من حيث المُشاركة السياسية، ففي الغرب يُساهم المواطنون في اختيار السلطة السياسية من قمة الهرم إلى أدناها، على عكس دول الخليج، كما أنه لا دور للمجتمع في اختيار كبار المسؤولين. ينبغي أيضًا توحيد المفاهيم المرتبطة بمفهوم المشاركة السياسية، وتفعليها، مثل مفهوم الرأي العام. فهل تعتد الأنظمة السياسية في الخليج بالرأي العام كما تعتد به الأنظمة الغربية؟ وهل البيئة والثقافة السياسية في كلا الجانبين واحدة أم بينهما تلاقٍ حتى نسلم بمنطق الضريبة في الغرب؟ وكذلك مؤسسات المجتمع المدني التي لا يزال الخليج يتوجس منها كثيرًا؟!
لا يُمكن أن تتبنى الدول في الخليج بعض منتوجات الدول الديموقراطية في الغرب، وتطبقها داخل منطقتنا الخليجية بمعزل عن المصانع المُنتجة لها، وكذلك مدى مواءمتها لبيئتها الداخلية، وهذه حجتنا مقابل حجية تطبيق ضريبة القيمة المضافة في الخليج. فاجعلوا المواطن مشاركا في اختيار المسؤولين حتى تكون حجية ضريبة القيمة المضافة مقبولة، لأنَّ هذا المواطن سيقبل عندئذ بدفع الضرائب طواعية، لأنّه شريك في الاختيار، ولأنه يملك أدوات إقالة المسؤول في حال إخفاقه، أو عدم العدالة في تطبيق الضرائب، ولأنه ومن خلالها ستتحقق ضمانة وعدالة توزيع الثروة في مساراتها الصحيحة.
وإذا ما كان هناك عجز بعد ذلك، ستكون الضرائب حلا بديلا ومقبولا، ما عدا ذلك، فلن يقتنع المواطن بالضرائب وثرواته توزع هنا وهناك دونه، ولو صرفت من أجله، لغيرت حياته رأساً على عقب. لذلك، فإنَّ التلويح بالحجة الغربية غير مقبولة، ولن تصلح زراعتها في البيئة الخليجية، وسيكون لها تداعيات على المنظور المتوسط.
لكن أين الحل؟! الحل هو انتهاج المسير الصحيح، وأن تحذر دول الخليج كل الحذر من أجندة صندوق النقد والبنك الدوليين، وأن تلجأ إلى الضرائب بالقدر الذي يعينها على إيجاد التوازن المالي المقبول مرحلياً، مع رفع وتيرة تنويع الاقتصاد الوطني، وهذا هو الأهم، وهذا ينبغي أن يكون شغلها الشاغل، لن نجد اختلافاً مع الحكومات الخليجية على هذا التحول أبدا، بل سيكون الكل داعمًا لها ومسانداً بقوة. أما تحميل المجتمع ضرائب متصاعدة في ظل استمرار مفهوم الدولة كما هو، بهياكله التقليدية الجامدة والمثقلة، وبصور ترفه العديدة، وأشكاله المظهرية التي تستنزف الثروات الوطنية، وبعدم شعور بعده الديموغرافي بمبدأ المواطنة وإنما شعوره كعضو في تحالفات على أسس غير المواطنة، يعطيه امتيازات دون غيره، فإنَّ ذلك لن يستقيم مع إرادات السياسة العليا للخليج التي ترى أنَّه آن الأوان للتحول عن النظام الريعي.. فمُعظم المسارات الحكومية الراهنة في الخليج تسير عكس هذا التوجه الاستراتيجي، صحيح أن الضرائب المُقبلة ستخلق التوازن المالي، لكننا سنفقد التوازن الاجتماعي في ظل المخاطر الجيوسياسية الإقليمية والعالمية.