إشكاليات التعيينات الإدارية

سَيْف المعمري

حَظِيَت مُشاركة مَعَالي الدُّكتور مَهَاتير مُحمَّد رئيس وزراء ماليزيا الأسبق، في ملتقى الدقم الثالث "المجتمع والاقتصاد"، باهتمام وسائل التواصل الاجتماعي لمختلف شرائح المجتمع العُماني، وتباينت الآراء فيما تضمنه طرح الضيف الماليزي، فمنهم من رأى أن مهاتير لم يقل شيئًا جديدًا عن السلطنة، والبعض الآخر رأي أنَّ ما قاله يجب أن يلتفت إليه بروح المسؤولية الوطنية، وأمانة التنفيذ لمرئيات الرجل الذي يعد صاحب تجربة اقتصادية رائدة في القرن الماضي من خلال النقلة الاقتصادية النوعية لماليزيا واستثماره للإمكانيات البشرية والموارد الطبيعة المتوفرة رغم التحديات العرقية في بلاده.

وفيما يخصُّ الإمكانيات البشرية والموقع الجغرافي والموارد الطبيعية والمعدنية والمناخ، والتضاريس، والتي أشاد مهاتير محمد بوفرتها في السلطنة، وبالإمكان استثمارها للأفضل، وهي كلها إمكانيات معلومة لدى كل أبناء المجتمع العُماني بمن فيهم المسؤولين وصناع القرارات التنموية، ووثقتها الخطابات والتوجيهات السامية منذ فجر النهضة المباركة، بالحث على ضرورة التعاضد لاستثمار الثروات الطبيعية والبشرية، وتنويع مصادر الدخل الوطني، والبحث عن بدائل عن الصادرات النفطية والتي تتأثر سلبا وإيجابا بالتقلبات السياسية والاقتصادية العالمية، ووضعت الرؤية الإستراتيجية "عُمان 2020"، ولم يُستفاد منها بالشكل الأمثل؛ مما وضع الاقتصاد الوطني وخطط وبرامج التنمية عرضة لتذبذبات أسعار النفط والتي نعيش أيامها، والتي لا أمل يلوح في الأفق بتعافي أسعارها خلال السنوات القليلة المقبلة.

لن أقف على كل ما قاله مهاتير محمد، فقد أشبع طرحا وتحليلا، ولكن سأتحدث عن قضية تطرق إليها في سياق طرحه ومناقشات الحضور له، والتي أعترف أنها قضية تؤرق كل المجتمعات وهي "الفساد"، ومن بينها مجتمعنا، وإن اختلفت مسمياتها وأشكالها، فإن العدالة ستأخذ مجراها، وهو ما أكد عليه حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم -حفظه الله ورعاه- في خطابه أمام مجلس عُمان في عام 2008 حيث قال جلالته: "... ومن ثم، فإننا نؤكد على أن تطبيق العدالة أمر لا مناص منه ولا محيد عنه، وأن أجهزتنا الرقابية ساهرة على أداء مهامها والقيام بمسؤولياتها بما يحفظ مقدرات الوطن ويصون منجزاته".

وعلى الرغم من كلِّ التوجيهات والتشريعات وجهود المؤسسات الرقابية، إلا أنَّ هناك من لم يكترث لها، لتحقيق مصالحه الشخصية والبعد عن المهنية والأمانة التي أنيطت به في أداء واجباته الوظيفية القيادية والإشرافية وتوكيل الأمر لغير أهله، وباتت الوظيفة ميدانا  للتشفي والانتقام وتصفية الحسابات الشخصية بين رئيس الوحدة ومن يعارض قراراته حتى وإن كانت خاطئة، وبات من يتظلم من قرار في محكمة القضاء الإداري يعده المسؤول خصما للمؤسسة الإدارية، ويسخِّر المسؤول كل إمكانياته، ويوظِّف كل اللوائح والإجراءات الإدارية والقانونية ضد المدعي على المؤسسة أمام المحاكم، ليس لأنه مخطئ، ولكن لأنه لم يرضخ للظلم والقرارات التعسفية، بل ذهب مسؤول وحدة معينة مخاطبا أحد موظفيه قائلا: "الوظيفة الإشرافية بالحظ"، وذهب في موقف آخر متعظا من لجوء الموظفين إلى المحاكم مُتذرِّعا بأن رفع دعاوى في المحاكم بمثابة إساءة لمؤسسته، وفي موقف متناقض دعا موظف آخر باللجوء إلى المحكمة إن كان غير راض عن قراراته، في إشارة ليأس رئيس الوحدة من احتواء إشكاليات مؤسسته.

والأمثلة على غياب الشفافية والمهنية في تعيينات الوظائف الإشرافية في مؤسساتنا كثيرة، وسنذكر أحدها على سبيل المثال لا للحصر، فقد صدر قراران وزاريان الأسبوع الماضي، في إحدى مؤسسات الجهاز الإداري للدولة بمحافظة البريمي؛ قضى الأول بتعيينات في تلك المؤسسة، وقضى القرار الثاني -وفي ذات المؤسسة، وبعد حكم قضائي- في مادته الأولى بتعيين وظيفة إشرافية، وفي مادته الثانية إلغاء قرار تعيين سابق لذات الوظيفة مرَّت إجراءاتها على اللجنتين اللامركزية والمركزية، ورغم أنَّ الإجراءات في القرارين سبقتهما مقابلات لا مركزية برئاسة رئيس الوحدة بالمحافظة، وتلتها مقابلات مركزية برئاسة وكيل وزارة وعضوية عدد من المستشارين، إلا أنَّ جهة الإدارة لم تحاول تجنب أعضاء اللجنتين شبهات المحاباة والبعد عن المهنية وترجيح مصلحة العمل، فجاء إصدار القرار الأول بتعيين رئيس قسم في وظيفة مدير مساعد دائرة ومتنقلا من دائرة إلى دائرة أخرى، وهو لم يكمل عاماً واحدا في وظيفته السابقة، متجاوزاً رئيس قسم في ذات الدائرة التي بها الوظيفة المتنافس عليها وهي "مدير مساعد"، وقضى الأخير في وظيفته السابقة ستة عشر عاما، وهو من بين الكفاءات التي يشار إليها بالبنان في المؤسسة، إلا أنَّ الصلة الاجتماعية الوثيقة التي تربط المعين على الوظيفة مع أعضاء اللجنتين، ليس لتفرده بمهارات وظيفية نوعية، بل للخدمات الخاصة التي يقدمها لهم، واحتضانه لولائم الغداء والعشاء التي يستقبل ويودع بها أعضاء اللجنة المركزية، أعطته حظوة اختياره للوظيفة الجديدة.

إنَّ إلغاء قرار التعيين في تلك الجهة بمحافظة البريمي وقرارات أخرى لذات الجهة الإدارية في المحافظات الأخرى من قبل محكمة القضاء الإداري، ولكون تلك القرارات مرت على إجراءات ذات اللجنتين في كل محافظة، واستمرار هاتين اللجنتين في إجراءات التعيين، واستمرار حالات رفع الدعاوى على تلك التعينات، تؤكد حقيقة أنَّ هناك خللا لا بد من التصدي له ومحاسبة المتسببين، وعدم السماح لكل من تسول له نفسه هدر الكفاءات البشرية في مؤسساتنا لتحقيق مصالحه الشخصية، فالعبرة ليست بمن يتصدَّر قمة هرم تلك اللجان حتى وإن كان وكيل وزارة، فتهميش الكفاءات وتصعيد المتواكلين والمتقاعسين في الوظائف القيادية ينذر بخطر محدق بمؤسساتنا يتمثل في انخفاض مستوى الأداء الوظيفي للكفاءات والإفلاس الفكري في مؤسساتنا؛ لأن الأمر أوكل لغير أهله، كما أنَّ إجراءات التعيين يجب أن تكون بخطوات متدرجة تشمل الاختبارات التحريرية والمقابلات الفنية وتقدير ملف الإنجاز المهني، كما يجب أن تشكل اللجان من قبل عدد من الجهات ضمانا للحيادية والنزاهة، بحيث يكون  أعضاء  اللجنة من الجهة الإدارية ومن جهاز الرقابة المالية والإدارية للدولة، ومجلس الخدمة المدنية، على أن من الأهمية أن تقوم لجنة تنمية الموار البشرية في مجلسي الدولة والشورى بوضع آلية منهجية في اختيار الكفاءات الإدارية في المؤسسات، متضمنة إجراءات صارمة في الاختيار، لضمان اعتلاء مؤسساتنا القيادات المشهود لها بالكفاءة، وإن الاعتناء وتقدير الكفاءات سيعزز نجاح برامج التنمية الشاملة في البلاد.   

وبوركت الأيادي المخلصة التي تبني عُمان بصمت...،

[email protected]