العمل السياسي السليم في التنظيم السياسي السليم

 

عبيدلي العبيدلي 

من العبارات أو بالأحرى المقولات التي نكررها يوميًا "العقل السليم في الجسم السليم" والتي ترد في الثقافة الغربية أيضًا بالقول "A Sound Mind in A healthy Body".  والغريب في الأمر، أننا نتداول هذه العبارة دون أن نحاول معرفة أصولها أو من هو قائلها. قلة منِّا هي التي، ربما، حاولت أن تعرف من هو قائل هذا المثل.  

وليس هناك أفضل من مُحرك البحث "غوغل" لمعرفة أصل هذا المثل وقائله. معظم نتائج البحث أرجعته إلى الفيلسوف اليوناني أفلاطون. وحفنة صغيرة أخرى نسبته إلى فيلسوف إغريقي آخر هو طاليس. 

انفردت الموسوعة الإلكترونية "ويكيبيديا، في نتائج بحثي، بالقول إن العبارة هي "لاتينيّة الأصل (mens sana in corpore sano) تعود جذورها "إلى القصيدة العاشرة من هجاء الشاعر الروماني جوفينال، (وأوردت) نصًا للقصيدة بالعربية مترجمًا عن الإنجليزية ومتبوعاً بالنص اللاتيني الأصلي يقول" : 

صل من أجل عقل سليم في جسم سليم 

اطلب قلب شجاع لا يخشى الموت 

ويرى طول العمر أقل نعم الطبيعة قيمةً 

قلب يتحمل أيّ صعوبات من أيّ نوع 

ولا يمسسه الحنق أو الرغبة 

قلب يرى أن محن هرقل وأعماله الشاقة 

أحسن من حب ساردانابالوس ومأدباته ووسائده الوثيرة. 

لك أن توفر ما أكتبه لنفسك 

لأنه بالتأكيد الطريق الوحيد لحياة سالمة هي الفضيلة. 

وتبقى كثرة تداولها، والقبول بها، ومن ثم الاستفادة منها في مجرى حياتنا اليومية، أكثر أهمية من معرفة من قائلها، لأنَّها بقدر ما تنطبق على البشر، فهي تشمل أيضًا التنظيمات السياسية، إذا ما طورت كي تتحول إلى عبارة تقول "العمل السياسي السليم مصدره التنظيم السياسي السليم". بمعنى أن سلوك التنظيم السياسي وذهنية أعضائه وسلوكهم السياسي، ومن ثم برامجه، لن تكون سليمة، ما لم تكن بنيته التنظيمية سليمة. ولكي يتمتع التنظيم بهذه البنية، تمامًا كما يحتاج العقل السليم إلى جسم بشري  يسيره نظام معقد، يشمل الأكل والرياضة، والتصرف... إلخ، كذلك التنظيم السياسي لا يستطيع أن يستغني، إن أراد التأثير في محيطه الذي يُخاطبه أولا، ويستمر في أداء دوره التنويري الإصلاحي ثانيا إلى نظام أشد تعقيداً وحساسية من ذلك الذي يحتاجه جسم إنسان بشري واحد. 

تأتي في مُقدمة تلك الاحتياجات التي تغذي جسد التنظيم السياسي بشكل سليم كي يتمتع هو بالذهنية الصحيحة المُناسبة، المذهب الفكري الذي يتبناه هذا التنظيم، الذي لا بد أن يتمتع بالمنطق العلمي السديد القادر على قراءة المشهد السياسي على نحو سليم، دون السقوط فريسة سهلة لأي نوع من أنواع التشوهات النظرية، التي تفقد الجسم التنظيمي توازنه أولاً، وتُربك حركته ثانيا، وتقلص حضوره الجماهيري ثالثا، وتقده إلى مهالك سياسية رابعًا، وليس أخيرًا. 

يلي ذلك التماسك التنظيمي الداخلي، وينطبق هذا الأمر على التنظيمات تماماً، كما هو الحال في الجسد الإنساني، فعندما يضطرب نظام أداء أي عضو من أعضاء الجسد، تختل حركته. كذلك الأمر بالنسبة للتنظيم السياسي الذي عندما يختل تماسك أعضائه، وانتمائهم الفكري، تبدأ الأمراض الداخلية تدب في جسد ذلك التنظيم، الذي يبدأ في التفكك، قبل أن يأخذ في التحلل والتشرذم. وليس المقصود بالتماسك التنظيمي هنا مصادرة الاجتهادات، أو قمع المبادرات، بقدر ما هو ذلك الانضباط الصارم المبني على الوعي والمستمد من القناعات الراسخة، تماماً كما نستمع إلى المقاطع الموسيقية العذبة التي تصدر من فرقة يحافظ كل من أفرادها على أداء عزفه المناط به مع المحافظة على اتساق أداء الفرقة الفني مهما بلغ عدد أعضائها، وتعددت الأدوات الموسيقية التي يعزفون عليها. والقيادة التنظيمية المتمرسة، هي بمثابة المايسترو البارع الذي لا يسمح لأيّ عازف، إلا عندما يُقرر هو ذلك، بالعزف المنفرد، فهي الأخرى تمارس نوعًا راقيًا من الرقابة التنظيمية التي تحارب الفردية، إلى حين تصبح الفردية من متطلبات العمل التنظيمي المبدع، الخارج عما هو مألوف.  حينها تتكرس الفردية، ولفترة محددة، وفي ظروف استثنائية مؤقتة، وطارئة، كي تتحول إلى عمل مبدع، وليس أنانية مُنفلتة.  

وتوصلنا المقارنة بين الحالتين: الإنسانية والتنظيمية، إلى أنَّه عندما يشعر أي منهما، الإنسان أو التنظيم السياسي، بوعكة أو تعثر على التوالي، حينها من المفترض أن يُبادر الأول، دون تردد إلى عيادة طبيب يثق فيه، ويعتقد أن لديه الدواء الشافي، ولذلك كان يعرف الطبيب قديما باسم الحكيم. كذلك الأمر بالنسبة للتنظيم، عندما يواجه تحديات مصيرية عليه أن يسارع إلى الاستعانة بالحكماء من داخل التنظيم أو من خارجه.  

هنا تتراجع القوالب التنظيمية الصدئة، التي تشل حركة التنظيم، وتحول دون حركته في الاتجاه الصحيح، كي تحل مكانها المُبادرات المبدعة التي تفتش في صفوفها على القدرات التي تختزن تجارب غنية في العمل التنظيمي السياسي. بل ربما تتجاوز القيادات الفذة الأطر التنظيمية تلك، كي تصل إلى من ترى فيهم، من خارج تلك الأطر من يستطيعون أن يدلوا بدلوهم، بالفكر الصحيح الملهم، الذي استقته من تجارب عمل سياسي صارم. وفي خضم هذه العملية المعقدة، وتمامًا كما يركز الطبيب على العضو الذي يُعاني من المرض، تبحث القيادة الفذة عن مواطن الضعف في صفوف تنظيمها كي تجد العلاج المناسب الذي يضع حدًا لها. 

وفي السياق ذاته، وكما يلجأ الطبيب إلى العمليات المعقدة، كذلك لا ينبغي أن تتردد القيادات الخبيرة إلى إجراءات جريئة من أجل الحفاظ على تماسك التنظيم أولاً، وتطوره ثانيًا، وحضوره في المشهد السياسي بشكل مؤثر ثالثًا، ونيل ثقة الجماهير رابعًا وليس أخيرًا. 

كل ذلك من أجل الانتقال من مقولة "العقل السليم في الجسم السليم" كي نصل إلى شعار "العمل السياسي السليم في التنظيم السياسي السليم"، دون الحاجة للبحث عن من هو قائل هذه الأخيرة.