التخطيط الاستراتيجي من منظور التجربة الماليزية

 

 

 

الدكتور سعيد بن مبارك المحرّمي

عميد كلية الاقتصاد والعلوم السياسية

جامعة السلطان قابوس

استضافت جامعة السلطان قابوس يوم الثلاثاء المُوافق 9 مايو 2017 مَعَالي الدكتور مهاتير محمد رئيس وزراء ماليزيا الأسبق وذلك في القاعة الكبرى بالمركز الثقافي، وقد ألقى محاضرة بعنوان "التخطيط الاستراتيجي من منظور التجربة الماليزية" ولقد تشرفت بتقديمه وإدارة محاضرته. وقبل الحديث عن أهم ما ذكره في محاضرته لابد من تقديم الشكر لجامعة السلطان قابوس لاستضافتها هذه الشخصية المُتميزة التي استطاعت قيادة ماليزيا والوصول بها إلى بلد متطور في بنيته التحتية وتحقيق قفزات متواصلة في الجوانب الاقتصادية والسياسية والتعليمية والاجتماعية.

لقد استطاع الدكتور مهاتير محمد رئيس وزراء ماليزيا خلال المدة من 1981 إلى 2003 أن يحقق نجاحات متواصلة لاسيما في النمو الاقتصادي والاستقرار السياسي لماليزيا بعد ما كانت دولة فقيرة يعصف بها الفقر والجهل والصراعات العرقية والدينية، واستطاع أن يقفز بالاقتصاد الماليزي بنمو إجمالي قدره 358% خلال مدة رئاسته للوزراء، فلقد نما الناتج المحلي الإجمالي من 24 مليار دولار أمريكي عام 1980م إلى 110 دولارات أمريكية في عام 2003م. ففي خلال رئاسته سن قوانين لتنشيط التجارة وعمل على تسهيل الحصول على فرص للتعليم لأبناء ماليزيا. لقد فتح البلاد للاستثمار الخارجي وأعاد صياغة الضرائب وخلص الاقتصاد والتجارة من المعوقات المختلفة، كما أشرف على تخصيص عددٍ من الشركات المملوكة للحكومة. كذلك تمكن من عمل البنية التحتية الضرورية للتطور والانطلاق للمنافسة العالمية. كما عمل على تقريب الشعب الماليزي بكل خلفياته العرقية والدينية من خلال الانتعاش الاقتصادي. ففي عام 1991 بادر بالعمل على إصدار قانون التنمية الجديد والذي يُؤكد على التنمية الصناعية والتجارية والحد من الفقر، وأصبح اقتصاد ماليزيا من أكثر اقتصاديات دول جنوب شرق آسيا نمواً، فلقد نما القطاع الصناعي وتوسعت الطبقة المتوسطة من الشعب الماليزي وتحسنت ظروف الحياة الكريمة. وفي عام 1991 أعلن عن رؤية 2020 والتي حدَّد أهدافها لجعل ماليزيا ضمن الدول المتقدمة والوصول بها إلى مرحلة نضوج الديمقراطية بحلول عام 2020م.

هذه بعض إنجازات الدكتور مهاتير محمد والذي كان رئيس الوزراء لخمس مراحل متتالية وكان فوزه في كل دورة بأغلبية الأصوات. أحبه شعبه لأنه وجد فيه الإخلاص وأن كل ما يعمله كان لصالح ماليزيا وشعبها. وبعد مرور اثنين وعشرين عاماً، قرَّر عدم المواصلة وفتح المجال لقائد آخر لمواصلة مسيرة النمو. وعليه فإن قرار جامعة السلطان قابوس كان موفقاً لاستضافة هذه الشخصية للتحدث عن التخطيط الاستراتيجي من منظور التجربة الماليزية والاستماع للرجل الذي كان وراء ذلك التخطيط الناجح الذي نقل ماليزيا من مرحلة العالم الثالث إلى مرحلة اقتصاديات الدول النامية. وفيما يلي أهم النقاط التي ذكرها الدكتور مهاتير محمد حول التخطيط الاستراتيجي وأهميته وركائزه:

أولاً: التأكيد على أهمية التخطيط الاستراتيجي، فالتخطيط ضروري للدول مثل ما هو ضروري للمؤسسات، فعلى كل دولة أن تكون لديها الرؤية الخاصة بها. إذ إنَّ غياب التخطيط والرؤية يجعل أي بلد يمضي دون هدف معين لتحقيقه وبذلك تتشتت الجهود وتُهدر الموارد المختلفة.

ثانياً: يجب أن يكون للتخطيط رؤية واضحة وأهداف محددة، كما يجب أن تجيب عن ماذا نريد من الخطة بالتحديد. فعندما تم وضع الرؤية الماليزية 2020 كانت تهدف إلى استدامة النمو الاقتصادي والاستقرار السياسي والحياة الكريمة للشعب الماليزي، ولقد تمَّ تحديد نسبة النمو الاقتصادي المستهدف في تلك الرؤية مع تحديد المؤشرات لقياس النمو بشكل سنوي ومن خلال تنفيذ خطط خمسية من أجل تحقيق جميع الأهداف بنهاية الرؤية الماليزية.

ثالثاً: من أجل العوائد المالية والجدوى الاقتصادية لأي خطة لابد من معرفة مقومات النجاح للدولة وتحديد أهم ما يملكه البلد من أصول. ولقد تم تحديد أهم الأصول التي تمتلكها ماليزيا، فعلى سبيل المثال: تعد ماليزيا بلدا زراعيا وبناء عليه تم التركيز على الزراعة كإحدى مقومات نجاح الخطة الاستراتيجية والرؤية المستقبلية وتم استبدال زراعة المطاط بزراعة شجرة النخيل من أجل صناعة زيت النخيل، وبذلك أصبحت ماليزيا إحدى أهم الدول في زراعة شجرة النخيل وإنتاج الصناعات المختلفة من زيت النخيل، كما تم استصلاح كثير من الأراضي التي لم تكن صالحة للزراعة وأصبحت منتجة وذات جدوى اقتصادية.

رابعاً: العنصر البشري من أهم المدخلات في العملية الإنتاجية ويعد أهم أصول البلد، إلا أن العنصر البشري قد يكون من أهم معوقات تنفيذ الخطة إن لم يتم تأهيله وتدريبه. ولذلك تم التركيز على التعليم وتأهيل الكوادر البشرية الماليزية بالدراسة داخل ماليزيا وخارجها. فعندما قررت ماليزيا أن تدخل في صناعة السيارات أرسلت الآلاف من طلبتها إلى أمريكا وأوروبا لدراسة الهندسة بشكل عام وكل ما يخص تصنيع السيارات من تصميم وإدارة عملية الإنتاج، وأصبح لدى ماليزيا كادر وطني متخصص في صناعة السيارات.

خامساً: التأكيد على أهمية البحث العلمي ودور الجامعات في إعطاء الحلول المختلفة للقضايا التي تواجهها الصناعات المحلية. فعلى سبيل المثال: لقد كان للتعاون بين الجامعات وقطاع الصناعة دور كبير في نهضة الصناعة البتروكيميائية في ماليزيا.

سادساً: معرفة الذات من أهم الأشياء لنجاح الرؤية. فقد بدأنا بتقييم أوجه الضعف والقوة بالإضافة إلى الفرص المستقبلية والتهديدات المختلفة. فمن ضمن الأشياء التي عددناها نقطة قوة هي تكلفة المعيشة في ماليزيا ومن ثم أجور أقل للكادر البشري والذي بلا شك أدى إلى أن تكون ماليزيا بلدا منافسا على مستوى العالم ليس فقط بكفاءة المنتج وإنما بانخفاض تكلفة المنتج أو الخدمة. ومن أجل أن تكون ماليزيا متميزة بانخفاض تكلفة المعيشة بها، فلقد تمت معرفة تكلفة المواد الغذائية الرئيسية وتحديد معدل الفائدة على هذه المواد من قبل الحكومة وبذلك أيضا عالجنا الاحتكار على هذه المواد.

سابعاً: العمل على ثبات العملة الوطنية الماليزية حتى لا تكون غالية أو رخيصة مقارنة بالعملات الأجنبية الأخرى. فارتفاع قيمة العملة يؤدي إلى ضعف مُنافسة المنتجات والخدمات الماليزية مع المنتجات العالمية الأخرى، وفي المقابل فإنَّ ضعف العملة يؤدي إلى غلاء الأسعار والتضخم .

ثامناً: حسن اختيار القيادات للمناصب المختلفة أحد أهم أسباب نجاح الخطة، وعلى هذه القيادات أن تكون مؤهلة علمياً وفي المكان المناسب بالإضافة إلى تحليها بالنزاهة والأمانة.

تاسعاً: يجب أن تكون العلاقة بين الحكومة والقطاع الخاص قوية، وأن يكون التخطيط مشتركًا بينهما من أجل نجاح الخطة الاستراتيجية. فالتخطيط من جانب الحكومة فقط قد يكون ناقصًا ولابد أن يكمله القطاع الخاص، ولقد تعلمنا كثيراً من خبرات القطاع الخاص من خلال تبادل الأفكار والرؤى، ولقد أثبت العمل المشترك جدواه في ماليزيا فقد عمل القطاع الخاص على نجاح الخطة الاستراتيجية لأنه طرف شارك في إعداد الخطة.

عاشراً: التأكيد على أهمية القيم والأخلاق على جميع المستويات بدءاً من المسؤولين في الحكومة وحتى أصغر موظف في كل مؤسسة. ولقد أعطى مثالاً بأن نهضة اليابان سببها تمسك الشعب الياباني بالقيم والأخلاق الحميدة، لأن الشعب الياباني يُريد أن ينتج الأفضل ولا يرضى بإنتاج أو تقديم خدمة غير متميزة وذات جودة عالية. فالفرد الياباني يعطي كل ما عنده من أجل إنتاج الأفضل. ولقد حاولنا في ماليزيا أن نبث هذه الروح بين الماليزيين في كل المؤسسات الحكومية والخاصة فتغيير القيم وثقافة الإنتاج من الأشياء الضرورية والمهمة لنجاح الخطة الاستراتيجية، وشدَّد على ضرورة زرع ثقافة القيم والأمانة للأجيال في وقت مبكر.

الحادي عشر: من أجل كفاءة المؤسسات الحكومية لاسيما تلك التي تصدر التصاريح المختلفة ومن أجل تذليل المعوقات للمستثمرين، فلقد تم تحديد أيام محددة لإصدار التصاريح المختلفة بحيث لا يحق لأيَّ مؤسسة حكومية تأخير أي تصريح عن الأيام المحددة. وعليه فلقد قضينا على نوع من الفساد الإداري وتفشي الرشوة بين الموظفين الحكوميين من خلال هذا الإجراء.

الثاني عشر: دعمنا خصخصة المؤسسات التي تمتلكها الحكومة، لأننا نؤمن بأن القطاع الخاص يدير المؤسسات بفعالية أفضل ولديه المهارات المختلفة أكثر من القطاع العام، كما إننا نؤمن بأنَّ دور الحكومة يجب أن يكون في الإشراف العام والتنظيم وليس في منافسة القطاع الخاص هذا إذا ما أردنا للقطاع الخاص أن يقود دفة الاقتصاد.

وأخيراً فإنَّ الفوائد التي جنيناها من الاستماع لشخصية فذة كشخصية معالي الدكتور مهاتير محمد كثيرة ومتنوعة. ففي هذه المحاضرة طاف بنا بدءاً من أنواع التحديات التي واجهته بصفته رئيس وزراء لإعداد الخطة الاستراتيجية الماليزية وتحديد الرؤية وما الذي يجب أن تجيب عنه الخطة ومتطلبات تنفيذ الخطة وآلية تنفيذها والمؤشرات المختلفة لقياسها والتأكد من تحقيق أهدافها المختلفة. وفي الختام استمع الحضور لفقرة الأسئلة والأجوبة والتي تعدت الساعة والثلث، فلقد كانت الأسئلة راقية المستوى والإجابات كانت صريحة ومباشرة. فمرة أخرى شكراً لجامعة السلطان قابوس على استضافة هذه الشخصية العالمية.

تعليق عبر الفيس بوك