"قحمة في سيح ولا شفاعة من شيخ"

 

 

حمد بن سعود السيابي

إنّ الوقوف على التراث المادي والمعنوي لأي شعب يكون رؤية لا بأس بها عن الحياة الاجتماعية والثقافية لذلك الشعب. وتعد الأمثال الشعبية أحد مكونات التراث المعنوي، وتعرف على أنها اختزال لخبرة أو عادة متكررة ثبتت صحتها على فترات زمنية متعددة وأصبحت مثلاً يضرب في المواقف الشبيهة لتلك العادة.

في هذه السطور البسيطة نحاول أن نلقي الضوء على أحد هذه الأمثلة الشعبية العمانية بالتحليل والتمحيص، ساعين بذلك إلى النظر في إمكانية وصلاحية استمراره كمثل في هذه الأيام

* نص المثل: "قحمة في سيح ولا شفاعة من شيخ"

* الكلمات الدالة: قحمة من قَحَمَ قَحَمَ ُ قُحُومًا: رمى بنفسه في عظيمة. ويقال: قَحَمَ في الأمر وقَحَمَ عليه. فهو قاحِمٌ

وقَحَمَ إِليه قَحَمَ قَحْمًا: دنا. وقَحَمَ المنازِلَ والمفاوزَ: طواها منزلاً بعد منزل فلم ينزل بها. (معجم الوسيط) سيح: الأرض المستوية السهلية، شفاعة: طلب الرحمة والمعونة والترجي، شيخ: كبير القوم وفي السياق شيخ القبيلة أو صاحب المنصب والجاه

* مناسبة النطق به: يضرب المثل لحث الآخر على بذل الجهد وعدم الاتكال ونبذ التواكل 

*التحليل العام: سنجزئ في تحليلنا المثل إلى شطرين، الشطر الأول قحمة في سيح. وليس المقصود فيها الحركة والقفز في السهول ذهابا وإيابا وإنما الحركة والنشاط والسعي وراء الرزق وطلب المعالي والسمو في الحياة. فالإنسان مطالب بإعمار الأرض والتمكين فيها ولا يتأتى ذلك إلا من خلال الحركة والنشاط والهمة القوية. وكلمة قحمة تدل على القفز عاليا والتي تتطلب الحركة السريعة عاقدا العزم على الوصول إلى الجهة المقابلة بكل اصرار واجتهاد. ومما روي عن الفاروق عمر رضي الله عنه عندما رأى رجلا أشعث أغبر قد تمسك بأسدال الكعبة يسأل الله أن يعطيه قال له إنّ السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة. في إشارة إلى أهمية العمل وعدم التكاسل.

ويطالعنا العلم الحديث وما لخصته التجارب الإنسانية التي تؤكد أن الإنسان لا يتقدم خطوة إلى الأمام حتى يلقي عباءة الكسل من ظهره وينسف بنيان التواكل والخذلان بمعول الهمة والنشاط. ونرى اليوم الأمم المتقدمة هي تلك الأمم العاملة بجد وحيوية ولا تجد في قواميس حيوات شعوبها إلا الإرادة والعزيمة وحب العمل والحيوية فيه لذلك وصلوا إلى درجة الإحسان. ولم تأت كلمة سيح جزافًا وإنما لها دلالاتها في هذا السياق، فالمعروف عن السيوح أو السهول تكون مفتوحة تتخللها بعض التلال الجبلية المنخفضة الارتفاع. فالمرء عندما يبدأ بالسعي وراء رزقه وبذل المزيد من الجهد نحو التقدم والازدهار تتاح له الكثير من الأبواب المفتوحة بمعنى أن الفرص كثيرة وشائعة. فقط عليه أن يغتنمها! فلا عذر من قلة الفرص المتاحة أو الخنوع أرضا بسبب ضيق الموارد والإمكانيات وإنما الحياة مرحبة بك أنت أيّها الساعي الضارب في الأرض القاحم في سيوح الحياة والمجد. ووجب التنويه بأن دلالة وجود بعض التلال الجبلية البسيطة ومجاري الأودية في السيوح تعكس بأنّ حركتك نحو هدفك لا تخلو من مصاعب وعثرات إلا أنها يمكن تجاوزها بالصعود عليها أو إيجاد خط سير بديل أو التنحي جانبا عنها ولكن لا ترجع إلى وراءك لأنك لا تصل إلى هدفك وغايتك المنشودة.

 

الشطر الثاني.. شفاعة من شيخ

ذكر كلمة شيخ هنا يقصد به شيخ القبيلة لما كانت القبيلة سابقا تعد إحدى المؤسسات الاجتماعية التي يعول عليها في توفير ما يلزم الإنسان من طعام وشراب وحماية أمنية. وعلى رأس تلك القبيلة الشيخ وهو كبير القوم وإليه ترجع نواصي الأمور وتعقد في زمام حضرته الاتفاقات والعهود. ومع تغير المجتمع وتراجع القيم القبلية للخلف وانحسار المعطى القبلي بصورة عامة وترافق ذلك نمو في مؤسسات الدولة الحديثة انخفضت الحاجة إلى شيخ القبيلة حتى يكاد لا يذكر إلا رمزيًا لأسباب لا يمكن حصرها في هذا المبحث. وسواء كنا متفقين في ذلك أو لا فإنّ كلمة شيخ في هذا المثل الشعبي يمكن أن تحمل معاني كثيرة أبرزها صاحب جاه وسلطة أو منصب ومركز مرموق. ولذلك تجد بعض الناس يتوددون إليهم وينساقون زمرًا لبيوتهم بغية الحصول على منفعة دنيوية معيشية. ويمكن قراءة هذا الشطر من زاوية أخرى باعتباره مؤشرا لقياس التمرد على السلطة التقليدية المتمثلة بشيخ القبيلة وعدم الرجوع إليه والاعتماد على الذات في المقام الأول، وهذا ما نراه اليوم واقعا ملموسا! فانتشار قيم الحداثة والعقلانية وما صاحب ذلك من تطور تكنولوجي ومعلوماتي هائل جعلت البنى التقليدية تتلاشى ويقل دورها في كافة الميادين.

وإذا أردنا وضع هذا المثل في ميزان الحياة العصرية، نجد لا مناص من الاعتراف وللأسف بأنّ الاجتهاد والمثابرة في العمل والنشاط والحيوية الممزوجة بالهمة العالية لا تكفي لخلق مستقبل واعد وطموح إذا ما كان لديك شبكة من العلاقات ذات الطابع المصالحي وهذا ما ذهبت إليه علوم التنمية البشرية على حثها الأفراد الطموحين باستغلال الموارد والإمكانيات ومن ضمنها ''الشفاعة من شيخ'' وخاصة في المجتمعات التي تغلب فيها روابط القربى على معايير الكفاءة والأفضلية.

ونافلة القول إن هذا المثل الشعبي سيحتفظ برونق استخدامه مع أخذه في عين الاعتبار القحمة والشفاعة؛ فهما وجهان لعملة واحدة وهي النجاح.

 

تعليق عبر الفيس بوك