رياح الاستقالات.. هل ستصل لبلادنا؟

 

د/عبدالله باحجاج

عندما يطالب مواطنون وزراء محددين بالاسم بالاستقالة، وعبر وسيلة إعلامية حكومية (100%)، وعندما يعاضدهم أحد أعضاء مجلس الشورى أثناء مناقشة برلمانية مع وزير الزراعة والثروة السمكية، فهذا يعني لنا أنّ خيار الاستقالات قد أصبح مطلبا عاما، يعكس لنا طبيعة المناخ السياسي الذي تعيشه بلادنا حاليا، كما يعد أحد المؤشرات الهامة على المتغيرات السياسية في علاقة السلطة بالمجتمع من جهة، وعلاقة السلطة بالنخب البرلمانية من جهة ثانية.

الأهم هنا، هل ستهب رياح الاستقالات على ساحتنا الوطنية بدلا من ترقب الإقالات كما حدث عام 2011؟ نحن هنا لا نخص مسؤولا بعينه ولا وزيرا محددا، وإنما نتناول قضية الاستقالات من منظور عام في ضوء انكشافات المرحلة الوطنية، وارهاصات لحظتها الضاغطة على النخب الوزارية، وهذا بعد سيكولوجي محسوس، ويمكن استشرافه بسهولة من منتجات الفعل الحكومي الغالب عليه مهمة تسيير الأعمال، وليس تنفيذ الاستراتيجيات الوطنية وكذلك في ضوء تعطيل فكرة الاستقالة رغم أنّها قد أصبحت الآن من المسلمات، ومن البديهيات، وخيار حضاري محمود، فعدم الاستقالة، وجمود خيار الإقالة، لن يتناغمان مع حتميّات التطورات الجديدة في بلادنا، وإذا لم يكن سابقا تفرضهما المرحلة بدون ضغوطات، فإنّ إعادة هيكلة مالية الدولة عن طريق الرسوم والضرائب تفرضهما أي الاستقالة أو الإقالة فرضًا حتميًا وجوديًا، لدواعي تحقيق استراتيجيات الدولة الكبرى، كرؤية 2040، قياسا برؤية 2020 التي قاربت على الانتهاء دون أن نحقق أهم مبادئها وهو التنويع الاقتصادي.

فهل ينبغي أن تحتفظ المرحلة الجديدة بالفاعلين القدامى أو حتى الذين جاءوا من رحم أحداث 2011؟ معيار البقاء أو الرحيل هي النتيجة المتحققة في مصير الاستراتيجيات الوطنية أو القطاعية، فمهمة تسيير الأعمال الإدارية الروتينية للوزير والمسؤول والقيادي قد ولت، فهذه مهمة يمكن أن تدير نفسها بنفسها حتى دون وزراء، مثل ما يحدث حاليا في بعض القطاعات، فماهية المرحلة الراهنة وآفاقها المستقبلية تحتاج إلى قيادات عليا ومتوسطة تحقق برامج واستراتيجيات التحول الثاني للبلاد، وإلا سنجد أنفسنا في نفس مصير رؤية 2030.

ورهاناتنا على الاستقالات في مقال اليوم لدواعي استيراد ثقافتها بعد أن هبّت رياحها على بلادنا من خلال المطالبات المجتمعية وعضو في مجلس الشورى باستقالة مجموعة وزراء على خلفية قضايا محددة، لكننا لو وسعنا النظرة الشمولية، فإننا سنتحدث عن إخفاق بنيوي يؤدي بنا منذ منتصف عام 2014 إلى تفكيك مفاعل قوتنا الاجتماعية بوعي ولاوعي بعد الفشل في تنويع مصادر اقتصادنا، دون مساءلة أو محاسبة أو لمجرد التفكير في الاستقالة.

هنا ينبغي أن نطرح على كل وزير أو مسؤول.. التساؤل التالي: ماذا حققتم من نتائج ملموسة في تنفيذ استراتيجيات البلاد المختلفة، كلٌ في قطاعه؟ الإجابات تتوقف عليها قضية الاستقالة أم البقاء، ومن حسن الطالع، أن يتقاطع مع هذه المرحلة الاستعانة بمهندس نهضة ماليزيا مهاتير محمد للمرة الثانية، الأولى كانت أثناء التحضير للبرنامج التنفيذي للتنويع الاقتصادي، والآن في ملتقى الدقم الثالث، وما أحدثه مهاتير في هذا الملتقى من مقارنات بين إمكانيات بلادنا مع بلاده، وما كشفه من مفاصل أساسية في نجاح تجربتهم، يعزز خيار الاستقالات كمبدأ عام، يمكن أن يلبسه أي وزير أو مسؤول لم يحقق النسبة الاستراتيجية المستحقة في قطاعه، كما أنّ تدخلات مهاتير سواء في كلمته الافتتاحية في الملتقى أو المؤتمر الصحفي، يفتح الآفاق للسلطة السياسية المركزية أو تلك المشاركة في الملتقى لما يجب عمله خلال المرحلة الراهنة.

وهذه الآفاق تتعلق كذلك بالنخب الوزارية ومحيطها الإداري، فالنهضة الماليزية قد ركزت على معيارين أساسيين هما، القيم، والوزراء والمسؤولين، وهذا سر نجاحهم، وسيكون سرنا نجاحنا كذلك في تجربتنا الجديدة إذا ما أردنا النجاح نفسه، فقد قال مهاتير في هذه الجزئية المهمة جدا إنّه من المهم أن تنبع القيم من الأعلى لجعل المواطن يثق في الحكومة، وذلك عبر غرسها أولا في الوزراء والمسؤولين، لماذا؟ الإجابة، لدواعي الاقتداء بالكبار والثقة بالحكومة، وهذه القضيّة تثير في بلادنا إشكاليات كبرى، معلومة بالضرورة، وتعكسها لنا ما أشرنا إليه سابقا.

وكل من يتأمل في كلمة مهاتير الافتتاحية في الملتقى، سيرى كما نرى أن رياح الاستقالات قد وصلت إلى بلادنا، وينبغي على نخبنا كلها سواء الوزارية أو البرلمانية.. التسليم بها فورا، إذ لا يمكننا حصرها على فئة دون أخرى، فالإخفاق منتشر في البنيات، فمقارنات مهاتير بين إمكانيات بلاده وبلادنا، تفشل حجج نخبنا التي تلوح بمحدودية نفطنا مقارنة مع دول الجوار الخليجي، ويجعلون ذلك مبررا لكل مساراتنا التنموية الراهنة، لذلك، فقد أيقظت مقارنات مهاتير وعينا، ورمت الكرة في ملعب كل وزير ومسؤول، فقول مهاتير أنّ عدد سكان بلاده (30) مليون نسمة، مقابل أكثر من (2) مليون نسمة في بلادنا، ودخلهم من النفط ( 600) ألف برميل، ودخلنا حوالي (مليون) برميل، فهذا يعني أنّ المليون برميل كافيا لمليوني نسمة، وهذا يدحض مبررات المحدودية النفطية، وقوله كذلك أنّ استغلال ثرواتكم من الموارد الطبيعية ستساهم في تنمية بلادكم، فهذا يسقط معادلة حجية كبر المساحة، ويحولها إلى ميزة للبلاد لا إلى معضلة تنموية في ظل المليون أو حتى (800) ألف برميل، كما يرمي بعبقرية نخبنا الوزارية في زاوية ضيقة جدا التي لم تعرف إلى الآن في كيفية استغلالها.

فهل ينبغي أن تظل على كراسيها أم تقدم استقالتها؟ وقوله كذلك إنّهم وجدوا أنّ النخيل تنتج الزيوت القابلة للأكل، فطوروا صناعتها حتى أصبحوا في تلك الفترة أكثر البلدان المصدرة لزيت النخيل، فكيف بوضع نخلتنا؟ أنّها تقتلع تحت جنوح التطور العام والخاص في وضح النهار، وأصبحت تعاني من مهددات وجودية بفعل البشر وبمباركة من الفاعلين الذين شرفوا بالمحافظة على هذه الثروات، وتحويلها إلى اصول استثمارية، ولم يفعلوا حتى ينجحوا، وقوله كذلك، إنّهم قرروا أن يكون التعليم مصدر دخل لبلادهم، فقاموا بفتح المعاهد والكليات والجامعات، وأنفقوا عليه (25%) من موازنتهم، فماذا ينتج تعليمنا العالي؟ الإجابة معلومة بالضرورة للكل.

وهنا، نتوجه إلى كل نخبة في بلادنا بالقول، إنّ ثقافة الاستقالة ليست عيبا أو تقليلا من شأن صاحبها، فهي سنة حميدة يلجأ إليها في الخارج كل مسؤول يعترف بالفشل أو التقصير أو عدم المقدرة أو إتاحة الفرصة للغير لإنقاذ ما يمكن إنقاذه خدمة للوطن، والاستقالة ستلقى قدرًا كبيرًا من الاحترام والتقدير المجتمعي، بدلا من الإقالة، طالما أنّها أي الاستقالة لم يكن وراءها تهمة في قضية معينة كالشرف مثلا، حتى لو كان وراءها إخفاقا في المهمة، فهل ينبغي الرهان الآن على الاستقالات بدلا من الإقالات؟ المسألة معقدة جدا، وتتحكم فيها روابط غير مرئية وثقافة متجذرة، لكن يظل الرهان في المقابل الآخر، على حتمية الإصلاح الشامل، في المؤسسات وفاعليها، ومنظومة قيمها، لكي تتناغم مع مرحلة إعادة هيكلة مالية الدولة، واستدامة مواردها المالية من الرسوم والضرائب، ودون ذلك، فلا يمكن لإعادة الهيكلة أن تنتج لنا نتائج آمنة ودائمة اجتماعيا، ويظل مهاتير نموذجا للاقتداء به في قضية الاستقالات، ففي عام 2003م أقدم على عمل نُعِدّه في عالمنا العربي والإسلامي غاية في الغرابة؛ فقد قرر الانسحاب من السلطة كرئيس للوزراء وهو في قمة مجده، وبكامل إرادته، معطيًا الفرصة لغيره من أبناء وطنه أن يساهم في تطوير وبناء ماليزيا الحديثة، التي أصبحت الآن مصدر فخر وعزّة للأمة الإسلامية كلها، كما يصف ذلك كل مُطِّلع على تجربة ماليزيا الحديثة، هكذا يفعل الناجحون؟ بينما العكس يظل مُتمسِّكا بالسلطة ربما حتى لآخر عمره إن أُتيحت له الإمكانيّة.