علي كفيتان
الريف هو مهد الذكريات الجميلة، هو عبق الزهور البرية الأصلية غير المحسنة وراثيًّا؛ فالجمال خلق رباني تحفه عناية الله ولا يعترف بالمساحيق المسرطنة التي صنعها من أرادوا طمس براءة الأنثى (الزهرة)، هنا تهفهف نسمات الخلود الأبدي في هذه الرُّبى اليانعة؛ حيث تشم رائحة الحدائق التي أبدعها رب العباد، وتستمتع بمد ناظريك إلى الأفق اللامتناهي، ويُلهمك كلُّ ذلك أنْ يبقى حُبك لهذه الأرض كشغف الفراعنة بالبقاء الأزلي، سيظل الريف جميلاً بجمال وصفاء قلوب ساكنيه، وسيظل جماله شاخصاً في عيون أهله حتى تنتقل الروح لبارئها.
الريف هو ملاذ الباحثين عن الهدوء والدَّعة والبساطة في العيش من غير تكلف، قال أحدهم "ستجدني في خيمتي التي صنعتها زوجتي وبناتي من رقع الثياب القديمة وجواني العلف، سأغط في نوم عميق، وأحلم بأنني ملكت هذه الدنيا، منبِّهي هو رزيم الإبل حول خيمتي، سأصحو كأنني نمتُ الدهرَ كله، وسأحدث ناقة أبي بلغتي الريفية، وستفهمني، بل وستقبِّل رأسي وتضع رأسها على كتفي... اااه، كم هي لحظات عظيمة هذه التي أشعر بها مع هذه الناقة العجوز، أتذكر أبي كم وصَّاني بها خيرا، فهي أم هذه القطيع الكبير الذي يهدر اليوم أمامي، تستلطفني وتشم رائحة أبي من خلالي، تعلم أنني أحبُّها؛ فهي التي سمحتْ لي بأن ألمس ضرعها عندما كُنت صبيًّا فتعلمت حلب النياق، وكم لهوت على ظهرها وهي مسترخية على الأرض لا تحرك ساكناً وأنا طفل صغير أترنح عندما أمشي، وركبت بناتها عندما نسافر بعيدا في الوديان السحيقة، وشربنا من صافي حليبها لسنوات طوال. اليوم باتت لا تبارح المكان، صار لونها باهتاً، وكاد يختفي سنامها، أطحن لها العلف وأجمع لها أوراق الأشجار، أحس أنَّ الريف بكامله يسكن في قلب هذه الناقة العجوز. كم سألت نفسي عندما تموت هل سأتركها للذئاب كأي جيفة لحيوان ميت أم سأدفنها بعيداً وأضع على قبرها شاهداً، لكنَّني أخاف أن يعتقد من أتى بعدنا بأنه قبر ولي".
في الريف صُوَر شتَّى للولاء للأرض، لم يعد يفهمها الكثيرون ممن باتوا في مصادر القرار، إنه ليس حجر وشجر وينبوع ماء وساحات خضراء بعد الخريف يتزحلق فيها السواح بمركباتهم الفاخرة، إنَّه ليس زخات رذاذ يتغنى بها الشعراء في أروقة مهرجان سياحي، الريف إرثٌ بشريٌّ من الصور المتناقضة، الناس يمشون شبه حفاة، ويفضِّلون ما يستر عورتهم من الثياب فقط، لا يشيدون البيوت الفخمة، يفضلون امتلاك الماشية، يسرحون معها في البراري الواسعة، يكتفون بما يسد رمقهم من الأكل، يزرعون الأرض عندما تُمطر السماء، إنَّه الزُّهد البشري في أعمق تجلياته، لماذا اليوم تميل هذه الصورة إلى العكس، هل انقرض الريفيون الأوائل، أم تغيَّر الزمان؟!
رأيتُ من بعيد سيِّدة تقود قطيعَ أغنامها، معها قربة ماء وعصاها فقط، جلست إلى ظل شجرة، تضرب بعصاها على جلمود صخر أصم، صَوْت هذه السمفونية يتردد صداه في أعماق الوادي، ليعلم الذئب بأن الراعي لا ينام عن قطيعه، بينما تستمتع الأغنام بالمراعي البكر وهي آمنة مطمئنة في كنف سيدتها، يعُود القطيع ليقتطع ما تبقَّى من ظل الشجرة، تتفحَّص الراعية أغنامها الواحدة تلو الأخرى من إصابتها بالحشرات أو حتى من آثار سقوط أو خدش في ضرعها بسبب الرعي. عقب ذلك، ينطلق صَوْت النانا الشجي في أرجاء المكان لينبئ بأنَّ الهدوء والدعة يُوْرِثان الغناء والإبداع، قد يسأل الواحد منا نفسه: لماذا تغنى هذه السيدة لوحدها وبدون جمهور ولا مسرح، لا أحد يصفق لها، ولا هدايا أو مسابقات تنتظرها؟! ولم يعلم السائل أنَّ الأرض تعرف هذا الصوت وتحبه، وبأن الشجر يصفق بأوراقه لهذا اللحن الشجي، والوادي يردد الصدى وكأنه فرقة موسيقية كاملة حضرت لتحيي هذ الحفل القصي. أما الجمهور، فهو كل أفراد مملكة الحيوان بدءًا من قطيع الأغنام، وانتهاءً بممالك النمل، جميعهم استمتعوا بهذا الأداء الملائكي، وبهذا الصوت الرخيم والمعاني العاطفية التي حملتها ترانيم النانا. حان وقت العصر، توضَّأتْ الراعية، ووجَّهتْ وَجْهَها إلى قبلة المسلمين، وركعتْ لله تعظيماً وإجلالاً، ثم ساقت قطيعها إلى الأفق البعيد.
حفظ الله عُمان، وحفظ قابوس.
alikafetan@gmail.com