حَمَد العلوي
لَقَد دأبَ جلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم -حفظه الله ورعاه- على الحديث عن الموروث الثقافي العُماني؛ وذلك خلال مُعظم خُطَبه الوطنية السامية، وعلى مَدَى الأربعين عاماً الماضية على وَجْه الخصوص؛ فلا يكاد يخلو خطابٌ رسميٌّ من التذكير بالعادات والتقاليد العُمانية، والحث على التمسُّك بأهدابها القيِّمة؛ فهي التي حفظتْ هذا المورث عبر السنين الماضية، وستظل تَحْفَظ الشخصية العُمانية، مادامَ تمسَّك بها العُمانيون، وعلى ضرورة الذَّبُّ عن القيِّم منها، أمَّا ما عدا ذلك فتركُه أولى، وإنَّ الثباتَ على الهُوية الوطنية، يجب أنْ يظلَّ محل فخر لكل عُماني؛ لأنَّ الأمجادَ العريقة ما كان لها أن تستمرَّ في البقاء، لولا أنَّها كانت تقوم على قيم وثقافات فاضلة؛ لذلك استحقتْ الذَّود عنها بالغالي والنفيس، حتى تظلَّ ولا تذوب القومية العُمانية، وتتفرَّق بين ثقافات شُعوب الأرض، كما هي الحال في مُعظم بلاد العرب.
إنَّ مُعظمنا لا يزال يتذكَّر القرارَ السلطانيَّ الذي صَدَر مَطْلع سبعينيَّات القرن الماضي؛ والذي بموجبه تحدَّد شكلُ الشخصية العُمانية بمظهر مُعيَّن، وأتى ذلك القرار إثر عودة الكثير من العُمانيين من خارج الوطن؛ تلبية لدعوة جلالته في عودة العُمانيين إلى بلدهم "عُمان" للمساعدة في البناء والرُّقي بالوطن؛ فكانوا عَصَب النهضة المباركة، وقد كان بعض العُمانيين قد تأثَّروا بثقافات البلدان العربية وغير العربية؛ فأتى هذا التأثر على شكل المظهر، وليس الجَوْهر بالطبع الذي كان مَمْهوراً بحُب عُمان؛ فأخذوا يرتدون مَلابس تلك الدول التي قَدِموا منها، وكان المرءُ إذا ما دَخَل وزارة من الوزارات، رأى منظرًا غير مُتناسقًا في اللباس، ولا مُتوائمًا مع الثقافة العُمانية؛ لذلك صَدَر القرار السلطاني بتوحيد شكل الملابس؛ بحيث تكون الدشداشة والمصر من القماش الأبيض؛ كي يرفع الحرج عن الناس، ولا يُسبب كلفة على البعض نتيجة مستوى الدخل المتدني للغالبية وقتذاك، ثم خُفِّف القرار بعد مُضي بعض الوقت، وسُمح بارتداء المصر الصوف لمن أراد، فلولا ذلك القرار والتدخُّل الحكيم يومها، لبدأ التنازل عن الأساسيات منذ ذلك التاريخ.
ولقد بَذَل جلالة السُّلطان المعظم جهداً كبيراً في إبراز الهُوية الوطنية العُمانية، وذلك على مدى السنوات الماضية؛ حتى أصبحتْ عُمان أشهرَ من نارٍ على علم، وأصبح العُماني يُمثل العقلانية، والمحبَّة والسلام، وإنَّه سفير مُؤتمن لبلده عُمان أينما حلَّ وارتحل، وإنَّ عُمان لتشعر بالفخر لحسن سلوك أبنائها؛ وذلك في تعاملهم المحترم البَيْنِي، والمتسامح مع الجميع في الداخل أو الخارج، وكذلك الجدية في العمل أو الدراسة، والندية في العلاقة مع الغير.
ولكنَّ التساؤل الذي وجب طرحه اليوم: وبعدما تحقَّقت هذه الشهرة العظيمة للإنسان العُماني، والسُّمعة الجميلة الطيبة لعُمان، وإنَّ سلطانها المعظم -أعزَّه الله ورفع شأنه- صَار يُعرف دوليًّا بسلطان الحكمة والسلام، وإنَّ الشعب العُماني عرف عنه أنه لا يَرَضى بالسير إلا في أعالي دُروب المجد والشرف، ولا يجلس إلا في رفيع مجالس العزَّة والاحترام، إذن ما الذي يجعل بعض العُمانيين لا يرتدون ملابسهم العُمانية في السفر؟! ويفضِّلون أنْ يُقلدوا غيرهم في ارتداء ملابسهم؟!!! حتى صاروا يتماهون معهم ويذوبون في ثقافاتهم دون حرج!! فلا تستطيع تمييزهم بَيْن الجموع الغفيرة. ولقد علمتُ بسفر أحد الأشخاص العُمانيين إلى أمريكا لعدة مرات، وكان بعضُها بعد أحداث 2001م، وقد أصبح التشدُّد الأمني لا يُطاق، وكان يرتدي الزيَّ الوطني والعمامة، فهمس أحد الزملاء في أذنه بالقول: "قد يركز عليك الأمن وأنت باللباس العربي"، فرد عليه بالقول: "لا أعتقد ذلك"، وعندما نزلوا إلى المطار، كان هو أول الخارجين من الإجراءات، ثم سهَّل على الشخص الذي أتى إلى استقبال الوفد؛ فتعرَّف عليه من مَلْبَسِه العُماني، والزميل الذي هَمَس له مُنبِّها عليه هو من كان محلَّ شك الأمن، وقد أُخِذ جانباً (للسين جيم)، وظلَّ الوفد في انتظاره حتى أُخْلِي سبيله.
لذلك؛ أعجبُ شديدَ العجب -وقد شاركني هذا الشعور بالعجب عدد غير قليل- من سفر بعضنا بالملابس الفرنجية، خاصة الوفود الرسمية، التي كان يُؤمّل منهم أنْ يُشِيْعوا الثقافة العُمانية أينما ذهبوا وحلوا؛ ففي ذلك الظهور نَوْع من الدعاية والإعلان لثقافتنا الوطنية، وتميُّز يجب أن نعتز به ونؤكِّد عليه، والعُماني سَبَق له وأن خُلِّدت ثقافته في سجلات الدول العريقة؛ وذلك من خلال مظهره وملبسه وخلقه، وحتى أطلق الصينيون قديما على رئيس الوفد العُماني لقب "ملك الأخلاق الحميدة"، وهذا المتميز ظلَّ يلازمهم عبر العصور الماضية، ونحن اليوم بتصرفنا هذا نقطع ما كان الواجب وصله كما يوصل المجد بالمجد، وأننا نحن العُمانيين -دون غيرنا- مُكلَّفون بالحفاظ على ثقافتنا، فكُلَّما ظهرت هذه الثقافة وأُبْرِزت، حتماً ستَطْغَى على مُحاولات المقلِّدين والسارقين لثقافتنا، ولن يلزمنا أنْ نَفْتَح المعارض الدولية للتعريف بالهُوية العُمانية، إلا إذا كان للمزيد من التذكير.
والظاهرة الأخرى التي بدأتْ تتغلغل في المجتمع العُماني هي ظاهرة "السلام بالأنف" دون اليد، ولا أحد يُنكر هذه العادة على بعض القبائل العُمانية؛ فذلك يعدُّ من ثقافتها المحفوظة لها، ولكنَّ العتبَ كل العتب على القبائل التي ظلَّت طُوْل ماضيها تسلِّم باليد، أو اليدين الاثنتين حسب مقام الشخص المُسَلَّم عليه، ولكنها الآن تحوَّلت إلى السلام بالأنف تقليداً للبعيد وليس للقريب الذين ظلُّوا يأنفون تقليده من قبل؛ حتى إنَّهم لم يكتفوا بالسلام وطريقته المقلدة، بل انتقلوا إلى إقلاب الحروف في الكلام، فأصبح حالهم وحال الغُرَاب الذي أراد أن يُقلِّد الحمامة في مشيها، فلا مشى كالحمامة، ولا هو عاد إلى مشيته التي كان عليها؛ فهذا يشبه حال الهاربين من ثقافتهم الوطنية، والمقلدين بلا بصيرة إلاّ ضعفاً في الثقة بالنفس، وإن هذا الغير الذي يقلدونه، لا يكاد يعبأ بهم، إذن العزة والكرامة في الذي كان عليه أجدادنا، وقد كان تاريخهم كله شرف ومجد، ومشاعر وجدانية قوية لا تهتز بالرياح العبرة.
إذن؛ يتوجَّب على الدولة اليوم أن تتدخَّل كما تدخَّلتْ في مَطْلَع السبعينيات، وأنْ تتنبه لخُطُوْرة الذي يجري من تقليد أعمى للآخرين؛ فقد يُعدُّ ذلك تبعية تلقائية للأفضل كما يظنون؛ فالذي يُقلِّد اليوم بعض السلوكيات قد يتجاوزها بالغد إلى أمور عقدية وعقائدية، وهُنا مَكْمَن الخطر... وذلك إذا ما كنا فعلا نريد أن نحفظ موروثنا من خطر الاندثار.