إستراتيجيتهم وإستراتيجيتنا

د. يحيى أبوزكريا

تُقاس الديناميكية النهضوية والتنموية والملامح المستقبلية في أيِّ حقلٍ جغرافيٍّ يقطنه مجموعة بشرية بالإستراتيجية المتَّبعة، والتي وضعها مجموعة من الناس لديهم قدرة خارقة على صناعة القيمومة الحضارية، ومن شروط نجاح هذه الإستراتيجية وفاعليتها توافقها مع التركيبة الاجتماعية والخصائص الثقافية لهذه المجموعة البشرية أو تلك. وبهذا المنطلق، نَضْمَن أن تكون الإستراتيجية مُنْسَجمة مع الواقع الاجتماعي، ومستوعبة له، وفي الأغلب مُوجَّهة له باتجاه الأهداف الكبرى المرسومة، وبدون ذلك تكون الإستراتيجية مجرد "يوتوبيا" لا وجود لها إلا في بعض النتاجات الأدبية والفكرية، وهي كثيرة إلى أبعد حدٍّ في التراث البشري.

لكن، هل نملُك نحن في واقعنا العربي والإسلامي والثالثي إستراتيجية حتى نَضَع أنفسَنا ها هُنا في مَوْضِع المقارنة مع الآخر الذي نَعْنِي به الكتلة الغربية على وَجْه التحديد! ولماذا يستمر الفكر العربي وحتى الإسلامي ويسترسل في التركيز دائما على الثنائيات من قبيل الأصالة والمعاصرة، النقل والعقل، النص والاجتهاد، التعريب والتغريب، السلفية والتنوير، الإسلام والعروبة، ووصولا إلى إستراتيجيتنا وإستراتيجيتهم أي نحن والآخر! ألسنا في ألفية العولمة والقرية الكونية، وذلك يستوجب إلغاء الخصوصيات وما به تتحدَّد الهوية وإذا كنا بلا إستراتيجية؛ فلا بأس بالاقتباس ما دام العقل العربي والإسلامي تعطل مع رحيل أبي علي بن سينا!!

وكلُّ هذه أسئلة نَسْمَع صداها هنا وهناك في خط طنجة-جاكرتا. مبدئيًّا عندما نعمل النظر في خارطتنا جنوبا، وفي خارطتهم شمالا، نستكشف مجموعةً لا حصر لها من الملاحظات؛ منها:

1- كل التراجع في خط الجنوب، وكل التقدم في خط الشمال.

2- ثمانون بالمائة من البشر يقطنون في خط الجنوب، وعشرون بالمائة في خط الشمال.

3- جنوب مستهلك، وشمال مُنتِج.

4- أغلبية خط الجنوب تعيش في خضم كلِّ المعضلات البشرية التي عرفها الإنسان منذ وُجِد على هذه البسيطة، وأقلية في الشمال تتمتَّع بكلِّ ملذات الدنيا.

5- أغلبية في خط الجنوب تعيش وفق لهجات لا علاقة لها بلغة التقنية، وأقلية في خط الشمال نسيت لغتها -استخدمنا لفظ النسيان تجاوزا، وإلا فهي تعض بالنواجذ على لغتها- وتفاعلتْ مع لغة الأرقام المنتجة، والتي بفضلها تحوَّلت الطبيعة ومواردها إلى بضاعات تُساق إلينا بالعملة الصعبة.

وما إلى ذلك من مفارقات، بل متناقضات، لا يُمكن إيجازها في هذا السياق، وكلُّ ما جئنا على ذكره يكشفُ فعالية إستراتيجيتهم، ونكوص إستراتيجيتنا ((بين قوسين)).

لكن، أليست إستراتيجيتهم تهدف لبناء حضارة يستفيد منها بنو الإنسان؟! أليس القبول بإستراتيجية الآخر المنتصرة أمرًا لابد منه! لكن ما هي معالم إستراتيجيتهم ومعالم إستراتيجيتنا؟!! عندما يُمْعِن الإنسانُ الباحثُ النظرَ في آلية عمل الحضارة الغربية، يُدرك أنَّ هذه الحضارة لم تنطلق من فراغ، بل وصلت إلى ما حقَّقته بَعْد جَهْد مُستفيض في كافة المجالات. فإذا أخذنا المثالَ السويديَّ، نجد أنَّ السويديين يُقدِّسون العملَ أيما تقديس، ويردِّد السويديون باستمرار عبارة "العمل هويتنا، والهوية عملنا". ويُضاف إلى ذلك حبٌّ غير طبيعي للعلم والاستكشاف والمعرفة، وتصرف الحكومة السويدية مبالغ خيالية على العلم والتعليم في نفس الوقت، وكل المجالات مفتوحة للراغبين في التحصيل العلمي، بل إنَّ الحكومة تدفع للطالب راتبا شهريا وتفتح له كل المجالات للتحصيل العلمي، حتى إذا أراد هذا الطالب إكمال دراساته خارج السويد.

فالعلم والعمل هُما جناحا الإستراتيجية الغربية، وهما سبب التطوُّر والنقلة النهضوية التي نراها في الغرب. وللأسف الشديد، فإنَّ القيمتيْن المذكورتين تراجع رصيدهما في واقعنا العربي والإسلامي؛ الأمر الذي أدَّى إلى اختلال التوازن في كل المجالات، وربما تصحيح الأمور في واقعنا، يتم بدءاً من إعادة الاعتبار للعلم والعمل على السواء.

والملاحَظ أنَّ هذا الانتصار الحضاري للكتلة الغربية باتَ مقروناً ببُعد أيديولوجي يُراد تعميمه على واقعنا العربي والإسلامي، ويُخْشَى أنْ ينتهي بنا المطاف على الأمد البعيد إلى فقدان الإستراتيجية والأيديولوجيا على حدٍّ سواء؛ فنبقى مهيضي الجناح، نكتفي بموقع المتفرج على غيرنا وهم يصنعون الحاضر والمستقبل، فيما نكتفي نحن ببعض الإنجازات التاريخية والماضية!