الوطن والشخصنة..

 

د. صالح الفهدي

 

الوطن أسمى من الأفراد، وأكبر من المصالح، وأعظم من المنافع، فإن أوجزه الأفراد في شخوص بعينها صغر الوطن، وتقازمتْ قامته، وتضاءلت هامته، وبهتت هيبته ونضاره، وخبا كبرياؤه وعظمته...! لا شيء يحقّر الوطن أكثر من الشخصنة التي لا تجعل له اعتباراً، ولا تقيم له قدرا...!

 فكم كان الوطن ضحيّةً في تنافرات أو توافقات شخصية لم تراع الوطن في هدفه الأعلى، ومفهومه الأسمى، ففي التنافرات مرّغت مصلحة الوطن في التراب لأن الطرفان أو أحدهما لا يروق للآخر، فليس المهم عندهما –أو أحدهما- ما يجنيه الوطن إنّما المهم ماذا سيجني فلان...!

يروي لي أحدهم أن مؤسسة حكوميةً ما قد شرعت في عمل استراتيجية عامّة لأحد القطاعات، وأنفقت لأجلها موازنات ضخمة من المال العام، يقول محدّثي: وحين قدّمت هذه الاستراتيجية ووضحت خطوطها العامة وجدت أنها هي الاستراتيجية ذاتها التي كنت قد أجريتها منذ خمسة عشر عاماً، ولم يكن على الشركة المكلّفة بوضع الاستراتيجية إلاّ أن تضع يديها على السابقة وتقدّمها في صورة حديثة. وتحصل بذلك على تكاليفها الباهضة.!! فما السبب الذي كان وراء إهدار أموال الوطن، وضياع الطاقات والموارد والزمن لأجل الشروع بعمل استراتيجية للقطاع؟! الجواب في كلمة واحدة: الشخصنة!!؛ فالذين شرعوا في إجراء استراتيجية جديدة تجاهلوا الذين أسسّوا لبنات القطاع، وأنشأوا قواعده، ووضعوا أبجدياته. إنهم باختصار: شخصنوا الأمور على حساب الوطن وثرواته، ولو أنهم تواضعوا فطلبوا الدّعم ممن سبقهم خبرةً، ومعرفةً، وتجربةً لوفّر ذلك موارد الوطن، وجهود أفراده، وسرّع من تنميته...! لكنهم آثروا – وهم الذين لا يملكون الخبرة ولا التجربة ولا المعرفة – أن يقوموا بالأمر بأنفسهم مع إقصاء كل من سبق، وإلغاء كل ما حقّق...! والضحيّة هو الوطن...!

مسؤول آخر في قطاع التنمية يعزي تباطؤ الإجراءات الخاصة بالاستثمار إلى الشخصنة ومن ذلك تسريع مشاريع لفلان وتأخيرها لآخر، دون الاعتبار بمصلحة الوطن العليا التي تقتضي النظر العام للوطن ككيان واحد يقتضي الواجب معاملة الجميع وفق ما تتطلبه المصلحة العامة للوطن دون وضع الإعتبارات الشخصيّة موضع الأهميّة والأفضلية...!

ومن خلال منبر إعلامي يصرّح مسؤول حكومي بجراءة: أنّ الشخصنة هي التي تقف وراء تقييد عمل جهاز حكومي، وتقليص صلاحياته، وتضعيف الثقة، مصرّحاً "أنّه إذا كانت هناك شخصنة بين أفراد فهذه دولة"...!  

ويتأفف مسؤول في المستويات الإدارية الوسطى قائلاً لي: لقد أصبحنا نعمل لأجل الشيخ الفلاني من الناس ولعضو مجلس الشورى الفلاني منهم، أمّا المواطن الذي رشّح هذا ليهتم بقضاياه فنصيبه التعطيل والعراقيل...!!

إنّ الفرد الذي يشخصن المصالح الوطنية – وكل مواطن مسؤول- لم يراع مصلحة الوطن الكبرى التي هي فوق المصالح الفردية، والعلاقات بين النّاس؛ مصلحة تتقازم عند قامتها كل مصلحة، ويتضاءل أمامها كلّ مطمع.

أمّا أن يكون الوطن هو كبش الفداء لعلاقة أفراد سليمة أو عقيمة فذلك ذنب لا يغتفر في حقّ الوطن، وجريرة تصغر عندها الأخطاء، لأنّ الوطن عندها سيكون محكوماً بوفاق أو اختلاف في المصلحة أو المشاعر أو العلاقة بين أفراد، وتلك والله شرطيّة لا تجوز، ورابطة لا تقبل.

بشر يتدرّجون في سلالم الترقيات، ويعتلون المناصب ليس بسبب كفاءة وقدرة يتطلبها الوطن ولكن بسبب الشخصنة التي رفعت هذا لأنه قريب من القلب رغم أنه لا يصلح، وأقصت ذاك لأن القلب "لا يطيقه" رغم أنه هو الأصلح والأكفأ للمسؤولية الوطنية...!

وكم هي التقارير والتوصيات التي ترفع لأجل "خاطر فلان" من أجل الحصول على ميزات وتقديرات واعتبارات، والمذكرات التي ترفع لأجل الحطّ من قدر فلان وتخفيض مرتبه لأنه لا "يوافق هوى القلب" وكل ذلك على حساب الوطن.

أحد المسؤولين يكتب تقريراً سنوياً غير منصف عن موظفه لأنّ الموظف "لا يصبّح عليه بالخير".. وآخر يغدق على موظفيه بالميزات العظيمة التي حرم غيرهم حقّها لا لسبب وإنّما لّأن "البعيد عن العين، بعيد عن القلب" والقريبون من العين هم أيضاً أصناف فمنهم من تنفر العين من مرآهم، ومن تتعشّق العين لقياهم..! مسؤول آخر لم يطق أن ينصحه أحد كبار المسؤولين في جهته عن تهوّره في اتخاذ القرارات، وتسرّعه في الأحكام على الموظفين فلم يتفكّر في أن الوطن يستلزم وجود الحكمة والرأي الآخر، والحصافة والتروي وإنّما نظر إلى أن هذا الرجل لا يطيعه في أمر، ولا يسايره في قرار، فأقصاه وأحاله إلى التقاعد..!!

من المؤسف أنّ الثقافة الغالبة ترجّح أن الأسباب الحقيقية وراء الشخصنة هي أسباب لا تتعلّق بالمهنية والحرفية والوظيفية وإنّما بالمشاعر الشخصية نحو الآخر، وهذه إحدى دوافع الإستبداد والطغيان إن هي تحكّمت في قرار أو حكم على إنسان. يقول الحق سبحانه وتعالى:"يا أيها الّذين آمنوا كونوا قوّامين للّه شهداء بالْقسْط ولا يجْرمنّكمْ شنآن قوْم على ألاّ تعْدلوا اعْدلوا هو أقْرب للتّقْوى واتّقوا اللّه إنّ اللّه خبير بما تعْملون"(المائدة/ 8)، فالأوطان لا تقام على المشاعر والأحاسيس والعلاقات لا تقام على المحبّة أو الكره، وإنّما على العدل الذي يقتضيه المنطق، ويدعمه العقل، وتصادق عليه البصيرة. وما ذهبت أوطان ضحيّةً إلا بسبب الشخصنة التي هي كالسوسة تنخر أساسه، وتقضّ أركانه.

إن الرقي الحقيقي إلى مفهوم الوطنية، والإخلاص للوطن يقتضي عدم شخصنة الأمور، لنختلف أنا وأنت حول كل شيء ولكن يجب أن نتفق بشأن الوطن، إذ لا يعنيني أنك تشعر نحوي بمحبة أو بغض لكن ما يعني –في ميدان العمل الوطني- هو أنك تتعامل معي وفق كفاءاتي وقدراتي واهتماماتي وجهودي التي من شأنها الإسهام في تنمية الوطن..

لا يعنيني أنك ترى أني جميل في عينيك أو قبيح فيهما ولكن ما يعنيني أن ترى أعمالي التي أقدّمها للوطن وتنقدها بتجرّد تام من الشخصنة، وبمهنية عالية من الفكر، لكي نبني أنا وأنت الوطن كما يقتضي الواجب الوطني منّا ذلك.

لا يعنيني أن تحصل على دخل أعظم مني، ولا على ترقية أفضل مني ولكن يعنيني أن نحصل على فرص متكافئة أنا وأنت فهذا في حدّ ذاته معيار عادل أشعر نحوه بالرضا.

الوطن في نهاية اليوم لا تقيمه ولا تقعده مشاعرك نحوي أو أحاسيسي نحوك، وإنّما اضطلاعي أنا وأنت بمهامنا وواجباتنا بكل إخلاص وإتقان وأمانة ونزاهة وجهد. الوطن في يدي ويديك إن شئنا جعلناه كرةً نحدرجها بيننا لأننا قد هبطنا بأفكارنا إلى المطامع الصغيرة، والأحقاد الحقيرة، وإن شئنا بنيناه صرحاً شامخاً لبنةً لبنةً بأيادينا لأننا أكبرنا الوطن في قلوبنا، وأعليناه في أنظارنا، وأعظمناه في عقولنا فلم يعد فيها متسع للشخصنة.