الليبرالية ومخاطر انهيار الطبقة الوسطى

 

عبد الله العليان

الحديث الذي يدور في بعض الدوائر الاقتصادية في العالم، عن مخاطر انهيار الطبقة الوسطى، وآثارها السلبية على الاستقرار في هذه الدول، عند تتلاشى فيها هذه الطبقة، هذا الحديث يدق ناقوس الخطر، مما يُشكله اختفاء هذه الطبقة، مع بروز ظاهرة العولمة والاستغناء عن العمالة، بسبب انتشار الآلة كبديل عن طبقة تشكل غالبية النَّاس في أغلب المجتمعات الإنسانية.

صحيح أن الكثير من المفاهيم الليبرالية تغيرت من الرأسمالية المتوحشة، إلى ليبرالية مُعتدلة، ومنها المدرسة "الكينزية" التي استطاعت أن تقلب مفاهيم الليبرالية وأن تحقق دولة الرفاه والازدهار في أوروبا، ويقول رائد هذه المدرسة جون ما ينرد كينز "ليس صحيحًا من مبادئ الاقتصاد أن المصلحة الشخصية تصب دائماً في خانة المصلحة العامة" وهو ما دعا بعض الدول الغربية إلى التَّخلي عن الليبرالية الكلاسيكية، بعد اشتداد الأزمات الاقتصادية أو ما يعرف بالكساد الكبير أو التضخم الذي عصف بالرأسمالية والأخذ بنظرية اللورد كينز، لإحداث التوازن عندما عجزت الليبرالية عن تحقيقه وضبطه.

ففي الولايات المتحدة معقل الرأسمالية الليبرالية قام الرئيس روزفلت بوضع "البرنامج الجديد" المعروف بـ"The New Deal" الذي أدخل تنظيمات اقتصادية جديدة، وتضمن قيام الدولة بنشاطات اقتصادية مُباشرة لإنعاش الاقتصاد الأمريكي المنكوب بأزمة التضخم والكساد، والتخلي عن بعض الأسس الليبرالية المنفتحة، والحد من حرية العمل والتجارة رغم إبقائه على الملكية الخاصة والمبادرة الفردية .... إلخ.

لكن هذه الليبرالية المجددة ـ إذا جاز التعبير ـ واجهت المعارضة والسهام لإقصائها، في بداية السبعينات والثمانينات من هذا القرن من الليبراليين المُحافظين، عندما برزت بعض المشكلات الاقتصادية مثل عجز الموازنات الحكومية، وزيادة حجم الاقتراض، وانهيار نظام النقد الدولي، وزيادة أسعار النفط ."وطالبوا بإعادة الاعتبار لليبرالية التقليدية بوصفها الدواء السحري، للنظام الرأسمالي الغربي، ولمواجهة ذلك كله ـ كما يرى د/رمزي زكي ـ يتعين العودة للأصولية الرأسمالية. وهذه العودة تحتاج إلى تغييرات أساسية في بنية وقواعد وآليات تشغيل النظام الرأسمالي، واقترح الليبراليون في هذا الخصوص جملة من السياسات الصارمة، مثل تحجيم دور الدولة وإبعادها عن النشاط الاقتصادي، وأن تتخلى الحكومات عن هدف التوظف الكامل ودولة الرعاية الاجتماعية، وأنه لتحقيق الاستقرار الاقتصادي وعودة الدماء لتراكم رأس المال، يتعين التَّصدي بحزم لعجز المُوازنة العامة للدولة من خلال إلغاء الدعم، وخفض المصروفات الحكومية الموجهة للخدمات الاجتماعية، وإلغاء إعانات البطالة، وزيادة أسعار الطاقة والضرائب غير المُباشرة، ونقل ملكية المشروعات العامة إلى القطاع الخاص، وتحويل بعض الوظائف التقليدية للدولة تدريجيًا للقطاع الخاص.

كما طالب الليبراليون الجُدد بخفض مُعدلات الضرائب على الدخول المرتفعة، وأرباح الشركات وعلى رؤوس الأموال حتى يمكن حفز الطبقة الرأسمالية، على زيادة الادخار والاستثمار والإنتاج. وانحصرت مطالب الليبراليين الجُدد فيما يتعلق بدور الحكومة في أن تحمي حرية السوق من أية تدخلات، وأن تضع سياسة نقدية صارمة للتحكم في عرض النقود بما يتناسب وحاجة التداول".

وتشاء الأقدار أن تسقط الأيديولوجية الماركسية بعد عقدين من الزمن على التَّحول الذي طرأ على الليبرالية التقليدية، وهلل نسور الرأسمالية يهتفون بالنصر المبين، وكان الأحرى بهؤلاء أن يتأملوا هذا السقوط ويدرسونه حق الدراسة، بعقلية النظرة الفاحصة الثاقبة، لا بنظرة التفوق والتعالي والمركزية الواحدية، وحسب قول السيد هادي المدرسي فإن"التاريخ ليس بلا ذاكرة، وأحداثه لا تستبطن صفحاته الصماء، وتموت بالتلاشي والتقادم، بل إنَّ فعلها يستمر يسري كتيار كهربائي في أفكار الناس وأحلامهم وتمنياتهم في اختراق المُستحيل، وصولاً إلى ما يليق بآدميتهم التي كرمها الخالق ولم يصنها المخلوق دائمًا، كما أنَّ الشيوعية لم تكن نبتاً شيطانياً جاء به الجن من كوكب آخر، بل هي بعض نتاج النظام الرأسمالي ذاته الذي يقدم للعالم كله اليوم، وكأنه طريق الخلاص، بل الخلاص ذاته.

فكل نظام يخلق نقيضه، وإذا كان النظام الشيوعي الذي عاش ثلاثة أرباع القرن لم يقدم النقيض الأرقى، فلا يعني أبداً أن النظام الرأسمالي هو غاية المنى وذروة الطموح الإنساني، بدليل بسيط هو أن الإنسان في ظله ما زال يحلم بالتغيير وما زال يحاول التغيير سلمًا، حيث ما أمكنه والثورة حيث لا تجدي أشكال الاعتراض والرفض الديمقراطي.

ويرى المدرسي أنَّه إذا كان الصراع بين نظامين يفتقران إلى احترام إنسانية الإنسان على مستوى الكرة الأرضية قد أنهكا بشر القرن العشرين، فليس زوال أحدهما بشارة مُطلقة وذلك أن عالماً بلا عكازه أخرى سيكون عالماً فاقداً للتوازن، إنّه عالم مختل، إنه عالم السيد ومليارات العبيد السعداء بكونهم قد تخلصوا من الخطر المُحتمل، ليموتوا في ظل الخطر الداهم، الذي طالما ناضلوا ضده، إنِّه سيكون عالم اللون الواحد، وهو بالنتيجة عالم مستحيل".

فالرأسمالية ليست هي الكمال، حتى يُمكن فرضها قسراً على أمم وحضارات مُختلفة الأفكار والاتجاهات والأيديولوجيات.

ولذلك ينبغي أن نمنع وقوع الكارثة التي توقعها الاقتصادي العبقري جوزيف شامبيتر قبل زهاء ستين سنة بقوله "ستُطيع الرأسمالية إنجازاتها. فنجاحها قد شلَّ المؤسسات الاجتماعية الحامية لها".

فهل تستطيع الليبرالية قيادة العالم ونفي التعديات الحضارية والفكرية؟ وماذا عن الطبقة الوسطى في هذه المرحلة العولمية المُقبلة؟ وهل بالإمكان فرض أفكار السوق الاستهلاكية وقيام العولمة على تعديات حضارية وتنميط البشر والمجتمعات على منطق واحد أوحد؟.