نفوس حائرة

 

عـلي كفيتـان بيت سعيد

لا زلت أرى تلك الحيرة في عينيك وعلى جبينك القاطب المُجعد ولا أعلم أهي من تراكمات السنين أم لمعاناتك من العتمة في الكهوف المظلمة تلك النظرة وذلك الشرود الذهني تصاحبك أيُّها المسكين مهما تغير مركزك، مظهرك، ومركبك، ومأكلك. يقولون إن مكان عيشك جميل بكل هباته ولا يورث الحزن والحيرة ولكنك بتَّ اليوم هكذا.

كنت بسيطاً ولا تعرف تعرجات الحياة وسلالمها المؤدية الى المجهول ومع ذلك قلت في نفسك لماذا لا أركب الصعب فلبست قميص المنقذ واقتنعت بأنك تثور على الظلم والطغيان ومنحت كل جوارحك وضحيت حتى ببقايا الكرامات السماوية التي ورثتها عن جدتك العجوز من أجل ما تراه صحيحاً ونسيت قطيع أغنامك وأمك وأبيك الطاعنين في السن وذهبت إلى آخر درجة في السلالم التي صعدتها لتهوي بعدها في الفضاء الذي لا زلت تسبح فيه حتى اليوم.

بحثت في كل تفاصيل وجهك الشاحب من جراء السقوط عن ابتسامة خفية ولم أجدها، ربما السباحة في الفضاء تمنح بعض المناظر العلوية الجميلة ولكنها تذكرك بالسقوط المروع وتجعلك تفكر في الكارثة وتنسى ما تشاهده ويأخذك الطيران إلى عوالم مجهولة لا قبل لك بها أيها الحائر، فالصقور تسبح بجوارك، وتستمتع بالفضاءات الواسعة الرحبة بل وتجيد اختيار أهدافها بكل دقة فتهوي عليها بشراسة. وفي المساء تبات أنت في إحدى الكهوف المُجاورة مكوراً على نفسك تتضور جوعاً وأبناء الصقر يتمشون ليل نهار علهم يخففون من سمنتهم المفرطة، سأل نفسه لماذا هذا الظلم فوجد أنَّه لا يملك منقاراً ولا مخلباً رغم أنه قد لبس بعضها في زمن البحث عن السكر والشاي الأحمر وحبيبات الرز النادرة. عاد إلى كهفه القديم عله يجد أبويه وقطيع أغنامه في قريته الوادعة ولكنه قد مضى زمن طويل منذ غيبته الأولى عنهم، عرف بعد عودته الحزينة بأنَّ الحياة لا تمنح أوقاتاً إضافية. وجد آثار أغنامه وعريش أبيه وأمه والمكان الذي كان يفضل النوم فيه بينهما اضجع ونام في نفس الحيز المكسو بحشائش رثة يتصاعد منها غبار الزمن علّه يجد ريحهم فأغمض عينيه وأسرج بخياله البعيد عنان التفكير فأتته الذكريات الجميلة فابتسم وقام خائفاً ورجع إلى حيرته ووجومه.

قال أنا لازلت أسقط من السماء وأبحث في ملكوت الله عن مستقر ومقام. كل الفضاءات لم تستوعب حيرتي، لقد ذهبت براءتي، وفقدت أغنامي، وأمي، وأبي، وحتى بندقيتي، وخنجري التي أذود بهما عن نفسي، وبقيت عصاي في يميني بها الكثير من البروز والانحناء وأكلها الزمن من أطرافها لكني لم أعد أملك غيرها. إنني إنسان من كوكب آخر لم استوعب ما يحدث في هذا المكان الغريب، لذلك سأظل سابحاً في مجرات الآخرين باحثاً عن نفسي التي ضاعت منذ زمن الثورات الخرافية والوعود الوردية التي مُنيت بها نفسي ولم أجدها إلا في أحلامي الزائفة.

قال رجل عليم لا تتعب نفسك فأنت لا تجيد إلا صفة المحارب وعليك أن تقنع بما قسم الله لك فكل أجدادك هم من المحاربين الأشداء لذلك فأنت تجيد فنون القتال وتصلح لقيادة الجيوش والأرتال والكل يستمتع بصوتك الجهوري الحازم عندما تعتلي هذه المنصة فهذه هي مهنتك المفضلة وهذا هو دورك الأزلي فلا تحمل نفسك ما لا تطيق وتحلم بأن تصبح ................... فهذه الصفات خلقت لغيرك وعندما يختلفوا سيجدونك جاهزا على كامل هيئتك وسيمنحوك سلاحاً فتاكاً تجيد استخدامه ولن تتردد في ممارسة مهنة أجدادك.

شق الصمت الذي يقلب وجه الرجل المحتار صوت الصحون والمعالق ونظر حواليه فوجد حفلاً بهيجاً، أناس يلبسون ثياب فضفاضة تعلوهم ابتسامات غامضة من حضوره بلبس متواضع تكوم من كل مكان، إنَّه المدعو الأخير في هذه الحفلة الصاخبة بأحاديث البطولات المضمخة بدماء الأبطال الأسطوريين الذين كان هو أحدهم، جلس وحيداً وانتظر حتى يفرغ الجميع من عشائهم الفاخر ثم ذهب يجر قدميه إلى ما تبقى منها قال له النادل الآسيوي بهدوء هناك مائدة علية القوم لعلك تجد فيها شيء اكتفى بالقليل وانصرف إلى كهف أبيه متذكرا أيام صولاته وجولاته في المراعي وفي ميادين الوغى حيث كان فارساً لا يُشق له غبار كم كان متعجرفاً ومؤمناً بما يفعل ولكنه وجد نفسه أخيراً كنفس حائرة تسبح في الفضاء اللامتناهي.

حفظ الله عمان وحفظ جلالة السلطان.