تحديث مداخل القاموس السياسي العربي

 

عبيدلي العبيدلي

لكل أمة من الأمم قاموسها السياسي الخاص بها، تتميز به عن سواها من الأمم الأخرى من جانب، وتحتل مداخله مساحة معينة من ذاكرة تلك الأمة، ووعيا حاضرا يحكم سلوك سكانها السياسي من جانب آخر. وتتضارب معاني المفردات الواحدة في أي قاموسين مختلفين ينتميان لأمتين مختلفتين.

على سبيل المثال لا الحصر، ما يعتبره قاموس الكيان الصهيوني "إرهابا" يمارس أعمالا "تخريبية"، يعرفه قاموسنا العربي بأنه "انتفاضة" تقوم بدورها "التحرري" على التوالي. وما يرى فيه الغرب مجرد "حركة استكشافات "، نصنفه نحن العرب على أنه "سياسات استعمارية".

لكن الأمر لا يقتصر على ذلك التباين بين الأمم المختلفة، بل نجد مثل هذه التفاوتات أيضا، وفي أحيان كثيرة، في قواميس تستخدمها أمة واحدة. فأحيانا نكتشف أنّ هناك أكثر من قاموس سياسي لأمة واحدة، تصوغ كل فئة فيها مفرداتها الخاصة بها التي تحاول أن تميز بها نفسها عن الفئات أو القوى السياسية الأخرى. أحيانا تكون تلك الفئة "طائفة" معينة، وأحيانا أخرى مكونا سياسيا، وفي حالات معينة قومية متفردة داخل الأمة الواحدة.

على سبيل المثال لا الحصر أيضًا، ما اعتبرته فصائل من الحركة الشيوعية العالمية، والعربية في القلب منها، قبل انهيار المنظومة السوفيتية، بأنه "حركة سلام"، صنفته فصائل شيوعية أخرى على أنه "حركة تحريفية"، تخلت عن المبادئ الأساسية للفكر الماركسي- اللينيني.

حتى في مجتمع سياسي صغير مثل المجتمع البحريني نشاهد مثل تلك الانقسامات التي يكون كل فريق منها قاموسه السياسي الخاص به. وكلما ازدادت الحركة السياسية غنى، كلما تعاظم عدد مداخل قاموسها السياسي/ وتكاثرت مفرداته، بسرعة تصل إلى درجة التكاثر الفطري (من فطر). 

ولا بد من التوقف هنا للتحذير من خطورة تأثيرات تلك المفردات والمعاني التي ترافقها، نظرًا للسلوك السياسي الذي ينجم عنها، والممارسة اليومية التي تفرزها في ساحة العمل السياسي.

ولتقريب الصورة من ذهن القارئ سنحاول قراءة بعض المفردات التي طفت على سطح العمل السياسي خلال السنوات العشر الأخيرة من تاريخ البحرين السياسي المعاصر.

ولنبدأ بتعبير مثل "المشاركة في الانتخابات البرلمانية". لقد اعتبر البعض قرار "المشاركة"، بمثابة "الخيانة العظمى" لمبادئ العمل السياسي. في حين رأى فيها آخرون أنّها فرصة نضالية من شأنها رفع مستوى أداء المعارضة السياسي. وبدلا من أن تتكاتف الجهود لإيصال أفضل المرشحين للحجرة المنتخبة، تطاحنت القوى فيما بينها بين مؤيد للمشاركة ومعارض لها.

وقد أثبت تاريخ البحرين السياسي خطأ المقاطعة بدليل أن الجميع اليوم، ودون استثناء لا يتردد في الإشادة بمنجزات برلمان "مشاركة الجمعيات السياسية"، مقارنة ببرلمان مقاطعتها. والحقيقة المرة التي على المواطن البحريني تجرعها هو اعترافه بالخسائر التي تكبدها عند "المقاطعة"، والمكاسب التي كان من المفترض جنيها فيما لو تمت "المشاركة".

نستطرد أكثر في استعراض المزيد من مفردات القاموس السياسي البحريني، كي نصل عند مدخل "المساومة". تحذر بعض القوى السياسية حتى من مجرد استخدام لفظ "مساومة"، وتعتبر ذلك "رجسا من عمل الشيطان" الذي ينبغي تجنبه حفاظا على الطهرانية التي تتمسك بها. تصل مثل تلك القوى إلى مثل هذا الاستنتاج قبل أن تعرف مجموعة من العناصر التي تتكون منها أية عملية "مساومة"، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: ماهي القضية التي ستكون على طاولة المساومة، فيما لو طلبت المساومة؟ من هي الأطراف الضالعة في عملية المساومة؟ ما هي موازين القوى التي ستقرر مسار عمليات المساومة؟ ما هي الظروف التي تحيط بفضاء عمليات المساومة؟ وكل إجابة عن مثل تلك التساؤلات تمارس دورا مفصليا في "إباحة" المساومة أو "تجريمها".

السياسي الحاذق، والقيادة الواثقة من نفسها هي تلك التي قبل أن تصوغ مفردها السياسي، ومن ثمّ تتبناه، تبادر إلى الإجابة عن تلك الأسئلة الاستراتيجية، شريطة أن تكون قادرة ومؤهلة لبلوغ إجاباتها بناءً على مصادر معلومات موثوقة، في وسعها الوصول إلى المعلومات المطلوبة، ولا تكتفي بحفر مداخل قاموسها السياسي استنادا إلى مجموعة من الشعارات التاريخية التي، وإن كانت صحيحة في ظروف معينة، لكنّها لا تتمتع بالخلود الإلهي، ولا الصمود الأزلي.

طبيعة العلاقة التي تحكم القوى المعارضة مع الدولة، بمعنى الاتصال الرسمي المباشر مع رجال الدولة ومؤسساتها الرسمية وإداراتها المختلفة التي تسير أعمالها. وهنا مرة أخرى لا بد أن تتم عملية صياغة المدخل السياسي، ومن ثم الشعار المرافق له بناء على قراءة ناضجة لأنشطة القوى الضالعة في العمل السياسي.

فطالما حظي النظام السياسي، وهو ما يتمتع به النظام السياسي البحريني، بشرعيته، فليس هناك، منطقيا وسلوكيا، ما يحظر - سياسيا-  وجود علاقة مباشرة بين الطرفين. وللمزيد من التوضيح في هذا المجال ينبغي التأكيد على أن هذه الشرعية لا تبدأ مع المشروع الإصلاحي، فقد صوت شعب البحرين، بجميع فئاته وقواه السياسية على عروبة البحرين وشرعية نظامها السياسي في سبعينيات القرن الماضي.

كل ذلك يؤكد على أنه، بخلاف القواميس اللغوية، والتي هي الأخرى ربما تختلف مداخلها من أمة لأخرى، ومن حضارة إلى حضارة مختلفة، تنفرد القواميس السياسية بديناميكيتها التي تفرض عليها تحديث معاني مفرداتها كي تأتي مناسبة للفترة الزمنية التي تستخدم فيها، حتى في نطاق الأمة الواحدة، أو الفضاء السياسي الواحد.

وكل ذلك يؤكد أيضًا، أنّ القواميس العربية، وفي القلب منها القاموس السياسي البحريني في أمس الحاجة إلى صياغة مداخله، لكن تلبية الحاجة ينبغي لها أن تأتي على أيدي من يملكون القدرة، ليس اللغوية فحسب، وإنما السياسية أيضا.

القواميس السياسية لا تشرح معاني المفردات فحسب، بل هي تقرر مسار الفكر السياسي، ومن ثم برامج القوى السياسية التي تقف وراءه أيضا.