عودة الروح للوطن

 

  علي بن كفيتان بيت سعيد

كان الوقت ضحى والمكان مزدحماً والأنفس تكاد تبلغ الحناجر رغم الغيوم التي تظلل السفوح المطلة على البحر، غابات لا تكاد تستطيع المشي فيها إلا إذا كنت من خبراء الأثر الريفي، كان هناك على الأرض رجال يحملون السلاح الشرقي وبينهم مناضلات من ذلك الزمن، الرعاة متوجسون من القادم فالحشود بدأت في المناطق الشمالية المُطلة على الجرف وبينهم وجوه تخوض المغامرة هنا لأوَّل مرة أتوا من أرض مختلفة، حلَّ المساء وأرخى الليل سدوله معلنًا عن صمت رهيب في عتمة الليل الخالي إلا من أصوات همهمات البوم وصرير الليل وثغاء الأبقار، كانت الغابة تعج بالرجال المسلحين يضحكون ويتبادلون أكواب الشاي الأحمر القاني كالدم مع حبات سيجارة اللف أو كما يسمونها (شعر)، توزعوا جيدًا ولديهم من الذخيرة ما يكفي لبدء النزال.

في آخر تلك الليلة شق السكون أمواج من المُهاجمين القادمين من معسكراتهم الشمالية وأخذت طائرات الهيلوكوبتر تدق طبول الحرب عبر أزيزها المخيف حتى هذه اللحظة لا حراك من المدافعين عن آخر معاقلهم، وصلت الحشود إلى منتصف أرض المعركة ولم تطلق رصاصة واحدة بينما بات الجميع بمن فيهم رعاة الماشية يسمعون صيحات القادمين غير المفهومة، وأخيراً نطقت بنادق الكلاشنكوف من ربى المكان إيذاناً ببدء الجولة الأولى من المعركة الأخيرة، منذ الوهلة الأولى لم يعرف المهاجمون من أين تأتي زخات الرصاص القاتلة وكأنها الأرض هي من تُقاتل، كانت ضربة أولى قاصمة فقد تكبد النازلون من علٍ خسائر في الأرواح دون مُقابل بينما ضل الباقون طريقهم في الأحراش يهتفون بلا هوادة لإدراكهم قبل أن تبتلعهم هذه الأرض الساخطة وتلك الأرواح الطائرة كالأشباح.

انتصف النهار وسحب القادمون أنفسهم إلى الخلف لابد أنهم أساءوا تقدير القوة الخفية، بينما دلت الخسائر البشرية الكبيرة التي خلفتها المعركة على فداحة النزال، لقد توفرت وليمة مجانية للسباع والجوارح في مساء اليوم التالي رغم أن الريفيين حاولوا جاهدين دفن من استطاعوا، تجمع الرفاق على هيئة مجموعات صغيرة واحتفلوا بذلك النصر في الجولة الأولى وهم يعلمون أنَّ الكرة آتية لا محالة فلا نصر بدون كسب سفوح الجنة الخضراء وروابيها اليانعة التي ظلت حصينة طوال هذا الصراع.

في مساء اليوم التالي ارتعدت الأرض من صوت الطائرات العمودية ودوي المدافع القادمة من البر والبحر إلى أرض المعركة فرّ الرعاة بما استطاعوا أن يفروا به من مواشيهم بينما سقط الكثير منها ضحايا القصف والتهمت النيران الغابة من عدة جهات لا بد أنّه الثأر من هزيمة الأمس وفي جنح الظلام التهم الجراد البشري أرض المعركة من كل اتجاه وسجلت ملاحم بطولية للطرفين فقد كان للقوة العددية والفدائية على حدٍ سواء الكلمة في هذه الليلة، ظل الرفاق يقاومون طوال الليل دون جدوى حيث ذكر من سمع عن الوقعة بأنّ المهاجمين كانوا على هيئة أرتال لا ترحم كل واحد يتقدم على ظهر الذي أمامه حتى يُمسك ببندقة المدافع ويبدأ بعدها فصل السلاح الأبيض فلا جدوى للبندقية التي أصبحت قيمتها كالعصا. وهنا خسر الرفاق مواقع حيوية في أرض المعركة وفقدوا محاربين متمرسين، وشباب متحمسين لاستخدام السلاح، بينما لا يزال كهف الخزنة صامداً يحرسه مقاتلون في ريعان الشباب وتمّ نقل المصابين إلى الخطوط الخلفية ومن بينهم القائد (سعيد بن كنح) وآخرون.

في الصباح الثالث انتشرت شائعات بين المناضلين بأن هناك هجوم كاسح قادم لا قِبل لهم به، مما أثر على الروح المعنوية، ولكن هناك من نذر نفسه لهذه المعركة، وهناك من توهم بأنَّ لديه معركة أخرى، في تلك الليلة انسحبت قيادات المدافعين دون تنسيق إلى الخط الخلفي النهائي ومنهم من تقهقر الى أبعد من ذلك مفضلا العودة إلى الحضن الدافئ للقضية بعيداً عن صوت الرصاص ودوي المدافع وأزيز الطائرات. 

في الجولة الثالثة والأخيرة دافع بعض الشبان المولعين برائحة البارود عن مواقعهم، دون أن يأبهوا بمن انسحب من فوهة البركان فقد ظلت بنادقهم تزفر نيرانها حتى عصر ذلك اليوم صمتت وعاد الهدوء للمكان، في الليل الأخير خرج الرعاة لإنقاذ ما تبقى من المناضلين أو المحررين على حد سواء وقاموا طوال الليل بجهود مضنية لتوريتهم التراب أو وضعهم في الكهوف بعيدًا عن الضواري، يقول أحدهم بحثت عن سالم صديقي المُقرب وتوأم روحي فقد كنت متأكداً بأنّه لن ينجو هو ومحمد ومسعود وثلاثة آخرين كانوا في مجموعة واحدة أوكلت لها حماية الخزنة يقول لقد كانت آخر لحظة جمعتني بهم مبتسمين غير آبهين بما يجري. رجال في ريعان الشباب يبحثون عن معركة فاصلة لإنهاء حياتهم الثورية ربما لا يُريدون مشاهدة الفصل الأخير بكل تجلياته.

تناقلت الركبان بأنّ خط العودة للوطن المُحرر كان مزدحماً فهناك رجال ونساء وشيوخ وأطفال أنهكهم الفقر والجوع والمرض وكانت مُخيمات الجيش تعج بالناس من مختلف الأعمار فقد سمعوا جميعاً نداء العودة والصفح الجميل من باني عُمان الحديثة عندما قال (عفا الله عمّا سلف) ووفرت لهم كل سُبل الحياة وعادوا ليعُمروا قراهم ولتجميع ما تبقى من مواشيهم التي نفرت في البرية، ولقد استوعب الوطن جميع أبنائه العائدين فانخرطوا في مختلف الوظائف الحكومية التي كانت متاحة لهم دون شروط مسبقة، وقام رجال مخلصون بتولي مهمة الإعمار عبر نقل مواد البناء والعمال بالطائرات العمودية نفسها التي حسمت المعركة بالأمس، وفي غضون عدة سنوات تم إيصال الدم إلى أقصى شرايين الوطن عبر طريق بري مسفلت شق جبروت الجبال وسكون الريف الجميل إلى النقطة الأخيرة وتدفقت التنمية لتلك الأصقاع القصية دون هوادة ليعم الأمن والسلام.

هناك اليوم في أقصى الوطن العزيز كل مقومات الحياة والاستقرار، وندعو الله أن يتقبل الجميع شهداء عنده وأن يُنعم علينا بنعمة الأمن والأمان التي أرساها قائدنا العظيم جلالة السلطان – حفظه الله ورعاه-.       

حفظ الله جلالة السلطان وأدام عليه نعمة الصحة والعافية والعمر المديد، وحفظ عُمان وشعبها من كل الشرور والمحن.

  

 

alikafetan@gmail.com