الديمقراطية بين المحاسن والمساوئ

 

 

عبد الله العليان

في كتابه (الديمقراطية الجذور وإشكالية التطبيق) يرى د/ محمد الأحمري أنَّ الرواة عن مفاسد الديمقراطية أوغلوا في الرواية عن مساوئ الديمقراطية، وتجنبوا عامدين محاسنها، وإني وإن كنت مقتنعاً ومائلاً لفوائد هذا النظام ونموّه، فإني كتبت عن كثيرٍ من مساوئه، ليس تحذيراً، ولكن من يكون أميناً، عليه الاعتراف بالحقيقة كاملة، ثم إن المسلمين بحاجة شديدة إلى معرفة مساوئ هذا النظام، كما عليهم أن يقطفوا محاسنه، ولكنه ليس مما يُمكن أن تأخذ الخير فقط بعد نزع شروره منه،لا ..بل تُحاول توطينه وتخفيف مفاسده؛ كونه عملاً ينمو ويُستصلح دائماً منذ عرف إلى اليوم والغد، فهذه هي المشاركة العامة..

وتحتاج الديمقراطية دائماً بحسب د/ الأحمري: إلى تحسين وتشذيب، وكل دراسة وإعادة نظر في سيرة الخلافة الراشدة تقول ذلك: ((كانت الخلافة تسير في الطريق إلى الديمقراطية، تبحث عنها أو عن أحسن ما يمكن للفرد أن يحققه))، ولما اكتملت هذه الصورة، صورة أن الديمقراطية هي نظام الفطرة – وهي ما كان يبحث عنه الراشدون – وأشار إليه ابن رشد في تعليقه على فقدان المُسلمين لما أسماه بالحكومة الفاضلة، وهو يعني الراشدة، وتحوّلها لمن يدوس الناس بحثاً عن مجده الشخصي وكرامته، وسمى حكومة الفرد بـ: ((سياسة الكرامة))، يقول ابن رشد ((وأنت تقف على الذي قاله أفلاطون في تحوّل السياسة الفاضلة إلى سياسة الكرامية من سياسة العرب في الزمن القديم، لأنَّهم حاكوا السياسة الفاضلة ثم تحولوا عنها أيام معاوية إلى الكرامية، ويشبه أن يكون الأمر كذلك في السياسة الموجودة اليوم في هذه الجزر)). والذي يبدو لي كما يقول محمد الأحمري أنَّ الأمم في أصل فطرتها السليمة تنتهج النهج الديمقراطي، ثم يطغى عليها في ظرف تعقيدها وتقدُّمها وحروبها وضعف دوافع الحرية عندها بسبب سقوطها تحت مطارق الحرب والمال والفساد الخضوع للمتنفذين المستبدين، ولكنها في حال تعالي حريتها واستقرارها، تعاود مرة أخرى سؤال الاختيار والديمقراطية وكأن الديمقراطية من استعراضاتنا للتاريخ، تاريخ المُسلمين وغيرهم يجدون في أصل الفطرة والعزة مراعاة لأصل الاختيار والفضيلة، وعندما تقع عليهم الأخطار وتتغلب الشهوات ويفسد الإنسان تحت شهوة القوة أو الفساد أو غيظ الحرب والانتقام، كما في روسيا والنازية. الديمقراطية منتج لمجتمع مستقر، كما يرى د. الأحمري، بعضهم ربطها بمجتمع زراعي، وآخرون بالتجاري المستقر، والحقيقة أنَّ العدل والمساواة فطرة في البشر، ولكن نعلم أن المستبد ومن يريد أن يستبد سوف يحرص على زرع الخوف لتستقر له السلطة، فلو كان المُجتمع مستقراً فهذا يُسعد الطبقة الحاكمة ولكنه في الوقت نفسه يُخيفها، فتحرص على نشر شبح الصراع، وإبقاء التوترات وتتحدث عن المُركبات المتناقضة في المجتمع، وتُحذر فئة من الأخرى، أو تضطر إلى افتعال حروب في الخارج لبقاء شبح عدم الاستقرار؛ لأنَّ هذا يوطد ويهدئ التساؤل حول جدواها وقدرته على العدل والإدارة، ثم تستسلم مُبكرة لو تساءل النَّاس عن كفاءتها في الحرب أيضاً، فتقيم توتراً دائماً يحمي سلطتها ولو أشقى شعبها، ولهذا كانت عملية الرقابة على الحاكم الديمقراطي في غاية الصعوبة والتنظيم، واستنزفت جهداً قانونياً كبيراً في الدُيمقراطيات حول صلاحياته الحربية، في أثنائها وما قبلها وما بعدها.

يؤكد فلاسفة السياسة منذ "أرسطو" إلى "روسو" بأنَّه ليس هناك من نظام سياسي في العالم يُمكن أن يُحقق المطالب المثالية؛ ولهذا فوجود مؤسسات سياسية مُتعددة في المجتمع يحقق مستوى عالياً من الديمقراطية، التي من أهم عيوبها: أنَّه لا يُمكن تحقيق مثاليتها، كما يعترف بهذه الحقيقة كبير دارسيها في زماننا، ولا يمكن تحقيقها كاملة كما يظهر من تعريفاتها المغرية، ولا من طموحات من يسعى إليها، كانوا يقولون: إنَّ الديمقراطية المثلى لا تقوم إلا في مجتمع صغير، ولكنها أيضاً عندما جربت في مُجتمعات صغيرة لم تتحقق تماماً؛ ولذا كان وصفها بأنَّها عملية مستمرة وصفاً أدق، وهي عملية مستمرة في التصحيح الذاتي، وتتخلى في طريقها عن العيوب التي يلصقها الإنسان الطامح بالمثاليات، فإنِّه وبعد الخلاص من عيوب إنسان تبدأ عيوب إنسان آخر، وبعد عيوب ظرف تبدأ عيوب ظرف آخر، ولهذا فالرائع فيها كونها إنسانية تضعف وتقوى بحسب إنسانها، وتتخلى عن عيوبها بقدر شجاعة رجالها، وعدم قطعتها هو ذخرها الكبير.

من أهم مميزات الديمقراطية/ كما يقول د. الأحمري، ما تقوم به في المجتمع من إحياء مسألة المصلحة العامة، وجعلها في صميم الاهتمام الفردي، فالفرد في المُجتمع الديمقراطي مسؤول دائماً عن اختيار قيادته وعن تقييم قادته، وتأكيد بقائهم أو طردهم من أعمالهم، ثم إنَّ الفرد الغافل لا يتركه المرشح الطامح إلى منصب فهو يرجو عونه بصوته وماله وكل أصناف الدعاية له. وهذا يخرج الفرد من عزلته للمشاركة في الساحة العامة، مراجعاً ودارساً ومتعرفاً على المصالح الحاضرة والمستقبلية لمجتمعه، والديمقراطية تجعل عين المرء على مستقبل كل شيء، فهو ليس ابن اللحظة الحاضرة فقط مع ما فيها من أهمية، بل له اهتمام زماني مستقبلي، فالحياة كلها تقيم لا بموت الحاكم الموجود ولا باغتياله، بل بخطة الأعوام القادمة للفرد ولحزبه. ثم إنَّ الديمقراطية بحسب محمد الأحمري، نداء عقلاني دائم يهتف بالناس أن يُعرضوا عن الأشياء الصغيرة الفردية والجماعية، ويرّكزوا على المصالح والمصائر العليا لتهذيب وسبك وحصافة تفرضها قيم ناتجة عن دور الخطابة في السياسة في المجتمعات الديمقراطية، وعن دور وعي المستقبل ومحاسبته للمتكلم، وعن أفق الحرية الذي يعوّد الفرد على المستوى من الخطاب الحر المنضبط برؤية الفرد وتقديره لمستقبله وعمله، بعكس المجتمعات غير الديمقراطية، حيث اللغة السياسية والقانونية تخضع لعامل لحظيَّ أو منفرد أو جزئي غالب على تلك اللحظة المسيطرة.

ودفاع الدكتور محمد الأحمري عن الديمقراطية بحق، دفاع عقلاني منطقي، يهدف إلى وضع الأمة في طريق قويم ورشيد، تنحسر الشمولية من طريقها، وتتقدم الحريات والتعددية، والتسامح مع التنوع الذي سارت أمتنا منذ تأسيس وثيقة المدينة التي أسسها الرسول (ص) في العهد النبوي الأول.