عبد الله العليان
الاختلاف بين البشر سُنّة كونية إلهية، وحاجة ذاتية لتعدد الآراء وتنوعها للاهتداء للصواب بين الآراء عندما تختلف في قضية من القضايا التي يجوز فيها الاختلاف، وكلٌ يدلي برأيه، فيما يراه أدق وأصوب في الطرح، ونبتعد عن ارتهاننا للرأي الواحد الذي لا يرفده نقاشٌ وحوارٌ آخر، ورؤية أخرى.
فالحوار الموضوعي عند الاختلاف ضرورة فكرية، وخطوة على الطريق القويم الذي نتوخاه، ونُعوَّل عليه الكثير لوضع الأسس والمنطلقات الواقعية، بعيداً عن الرؤية الأحادية الضيقة. وكل لكل فرد وكل أمّة رأيها وسؤالها في ما يرونه من حاجة أي أمة من الأمم في الاختلاف الفكري. ويقول المفكر المغربي د. طه عبدالرحمن في كتابه (الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري)" إنّ الأمة لا تكون بحق حتى ترتقي بالجواب عن أسئلة زمانها إلى رتبة الاستقلال فيه، إذ ليس لها إلى امتلاك ناصية هذا الزمان من سبيل إلا الجواب المستقل، وإلا صار ملكه إلى أمّة سواها، فتُضطر إلى أن تجيب بما تجيب به هذه، مُسلَّمة، وهي راغمة، قيادها إليها. فلنسأل إذن: "هل للأمة المسلمة جوابها الخاص عن أسئلة زمانها؟"، ويزداد هذا السؤال إلحاحاً متى عُلم أن زمان هذه الأمة ليس كمثله زمان؛ إذ لا ينحصر في زمن البعثة النبوية، ولا في الفترة التي استغرقتها حضارتها، وإنما يمتد إلى زماننا هذا، بل إلى كل زمان يأتي من بعده. قد يبعث هذا السؤال على استغراب البعض، على استنكار غيرهم، وذلك لأسباب عدة نذكر أهمها؛ أحدها: أن مفهوم "الأمة المسلمة"، متى نظرنا إلى حال المسلمين يبدو إلى الوهم أقرب منه إلى الحقيقة، وأن الكلام فيه يبدو إلى اللغو أقرب منه إلى الفائدة؛ والثاني، أنّ الأمة المسلمة، ولو أنها أصلاً مسؤولة عن هذا الزمان ومؤتمنة عليه بموجب نسبتها إلى الدين الخاتم، فإنها عاجزة عن أداء هذه المسؤولية وحمل هذه الأمانة.
والثالث أنّها كانت ومازالت تتعرض لعمليتي سلب منسق: إحداهما نهب خيراتها المادية بالاستيلاء على مواردها؛ والأخرى محو قيمها الروحية بنشر الفساد بين أبنائها؛ وقد دخل هذا السلب الثاني طوراً خطيراً لم يسبق له نظير، وتمثل في حرمان هذه الأمة من حقها في أن تختص بأصول اعتقادية من لدن أولئك الذين نصبوا أنفسهم ظلماً وزوراً، أوصياء على الحقوق والحريات في العالم.
بيد أن هذا الاستغراب، بل هذا الاستنكار، قد تخف وطأته لو ننظر إلى الأمة المسلمة، لا على أنها واقع متحقق، وإنما على أنها واجب ينبغي القيام به في ظروف الواقع المتحقق؛ أو بعبارة أخرى لو أننا إليها لا على أنها مجموعة أحداث نشهدها متحيزةً ومتحيِّنة، وإنما مجموعة قِيَم تسعى إلى أن تساهم في توجيه الأحداث المشهودة.
ويرى طه عبد الرحمن، أنّ اختلاف القيم، سُنّة كونيّة، وضمن الطبيعة البشرية، وهذا ما أكد عليه القرآن الكريم في قوله تعالى:(ولذلك خلقهم)، ومن هنا كان هذا التعدد في الآراء، وطرح الفكرة ونقيضها بما يدحض الفكرة المخالفة، والتي تسهم في إقصاء الفكرة الخاطئة، لكن الإشكالية في الرؤية الأحادية في طرحه مهما كانت رؤيته ضعيفة وسقيمة. ويظل هذا الاختلاف المنتج للتنوع إيجابياً ومفيدًا، ما دام نابعاً من تلك الفروق الفطرية، وعن التباين الموضوعي في البحث عن الحق وهذا الاختلاف في حدوده الطبيعية هو أصل الوحدة، لكن الغرب اتخذ موقفاً مختلفًا، حيث تمت إقامة "مبدأ اختلاف القيم في مجال الثقافة"، ومكان "مبدأ الآيات في فضاء الوجود" وأقام "معيار الانفصال" مكان معيار "الاتصال"، إذ صارت القيم منفصلة بعد أن آوتها ثقافة مخصوصة، وهذه الثقافة أريد لها أساسا أن تكون منفصلة.
أمّا الظواهر؛ فالأصل فيها أن تكون منفصلة وقصدنا هنا أن نبيّن كيف هذا العقل ذو الصبغة الانفصالية انتهى إلى جعل التصادم صفة لازمة للقيم، وحتى لما تولى بعض المفكرين البحث عن السبل التي تخرج من هذا التصادم الذي ضرره بالأمم لا يقل عن ضرره بالأشخاص؛ ما استطاعوا الاهتداء إليها، لا لعدم وجودها أو لتعذر الوصول إليها وإنما لبقائهم متمسكين بهذا العقل المنفصل، فيتعين إذن أن نبسط الكلام في طبيعة هذا الصدام بين القيم، ثمّ في الطرق التي اتُبعت في دفعه، وحتى إذا وقفنا على وجوه الخلل فيها ـ وهي ترجع في جملتها إلى فصل القيم عن سياقها الملكوتي ـ عمدنا إلى بيان كيف ندفع وجوه هذا الخلل البنيوي، واضعين القواعد الأساسية للخروج من هذا الصدام بين القيم، فلنمضِ إلى تفصيل هذه المطالب على هذا النسق.
لقد اشتهر مفهوم "اختلاف القيم" عند أهل العقل الملكي باسم "تعدد القيم" جرياً على عادتهم في تبديل المنفصل مكان المتصل، فـ"الاختلاف" وصف كيفي، والكيف أمر اتصالي؛ في حين أن "التعدد" وصف كمي، والكّم أمر انفصالي؛ وما لبثوا أن اشتقوا منه المصدر الصناعي، وهو "التعددية"، أي "خاصية كون الشيء متعددا" وانتهوا بجعله اسما دالاً على "الاتجاه الذي يقول بتعدد القيم" أو قل "المذهب الذي يدعو إلى كثرة القيم"، وضده "المذهب الذي يدعو إلى وحدتها" فلنسأل إذن ما هي خصائص "تعددية القيم"- أو "التعددية القيمية" - كمذهب مخصوص؟ وما هي الظروف الموضوعية التي تسبّبت فيها؟ ثم ما هي الطريق التي وقع التعامل معها؟
ويرى طه عبد الرحمن في هذا الكتاب، أن مقولة الإنسان الكوني وفق الرؤية الأمريكية، تريد منها أن تهيمن هذه الثقافة الأمريكية، على الثقافات الأخرى، حيث "يسعى (الإنسان الكوني) ـ لا سيما في طوره الأمريكي ـ بكل ما أوتي من قوة إلى فرض رؤيته الخاصة ومعاييره الثقافية على باقي الأمم، معمَّماً عليها نمطه الخاص في التفكير والسلوك، وذلك دعماً لهيمنته الثقافية في ظل هيمنته الاقتصادية المتمثلة في السيطرة على رؤوس الأموال والأسواق التجارية والشركات العالمية". وهكذا، يصير النظام الثقافي العالمي الجديد عبارة عن الخصوصية الثقافية للأمريكان معمَّمةً على غيرهم من أمم العالم، مما يفضي حتماً إلى تجريد الإنسانية من التنوع الثقافي والتعدد الحضاري اللذين تنبني عليهما الخصوصيات التي تتميز بها هذه الأمم، وتستمد منها عناصر طاقتها ومعاني وجودها وأسباب عطائها؛ ولمّا كان العالم الإسلامي الذي أخذ أرباب هذا النظام يتوجسون منه خيفةً يحتضن ثقافات متنوعة وغنية تلبَّست بالثقافة الإسلامية المتصلة، صار أكثر من غيره عرضة لهذا التنميط الثقافي والاجتثاث لمظاهر التنوع والغنى في ثقافته، ناهيك عن منظومته من القيم الإيمانية والأخلاقيّة.