حين تموت الأشجار واقفة

 

عبيدلي العبيدلي

 

تعبير تموت الأشجار واقفة، أو "كذلك تموت الأشجار واقفة في شموخ وكبرياء واحترام" هو من المقاطع الأدبية التي لاكتها كثيرا أقلام وكاميرات بل وحتى أفواه: الأدباء والفنانين، والسياسيين على التوالي. فهناك، على سبيل المثال ما كتبه معين بسيسو في قصيدته المشهورة التي حملت العنوان ذاته، وقال فيها:

للثعابين جحور، للعصافير فنن

آه للميت كفن

ولكل الناس في الأرض وطن  

يا أيها العصفور في السحب ما زلت فوق نعشك الملعون أنتحب

 وكيف هذه الأوزة الخشب 

تعطي لمن ينوح، 

بيضة من ذهب؟

وهناك الفيلم الذي أخرجه أحمد يحيى، مع مساعده علي إدريس، مع طاقم الممثلين: مديحة كامل، وأحمد زكي، وفاروق الفيشاوي، ومحمود المليجي، ومجدي وهبة، وسعيد صالح، في الثمانينيات من القرن العشرين.

ونجد أيضا بعض الأعمال المجهولة الأسماء، والتي عرضتها قنوات التواصل الاجتماعي مثل: الأشجار اختارت وقفتها حية.. وميتة.. لأنها ترفض السقوط.. والإنسان بما أوتي من حق.. ومن استشعار بالوجود يجب ألا يكون أقل وقفة من تلك الأعواد المنتصبة في الهواء في مواجهة الريح.. والأعاصير.. إن تطلعا إلى الأعلى.. يعني أنك تموت.. وترعرعت واشتد عودك.. وأن جذورك في الأرض ممتدة.. ممتدة امتداد الحياة نفسها.

ونكتشف في الأدبيات العربية من استعان بالنصوص الدينية، وراح يجتهد في تفسيرها في الاتجاه ذاته، مثل خالد عاصي فوجدناه يتناولها من خلال تصور "الكاتب عبد الدائم الكحيل في قوله تعالى: (اللّه يتوفّى الأنفس حين موتها والّتي لم تمت في منامها فيمسك الّتي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمّى إنّ في ذلك لآيات لقوم يتفكّرون) الزمر: 42.

فالنفس يتوفاها الله تعالى أي يأخذها ويعيدها إليه عندما ينام الإنسان، ثم تعود لتلتصق به لحظة الاستيقاظ، وتتم العملية بسرعة فائقة يمكن أن تكون أسرع من الضوء.. لذا فالروح خالدة لا تموت، هي تخرج من الإنسان عند الموت فقط، كي تتجمع من جديد، فالبشرية كلها من روح واحدة.. والنفس توسوس للإنسان وتحرضه على فعل السوء، يقول تعالى: (إنّ النفس لأمّارة بالسّوء إلا ما رحم ربّي إنّ ربّي غفور رحيم) يوسف: 53. ويخلص الكاتب من ذلك إلى أن خروج الروح من الجسد لا يعني إطلاقا توهان الروح التي تبقى خالدة لكن في صور أخرى لم يتسن للإنسان أن يجسدها في ذهنه وذاكرته.

وخلال البحث عن أصل هذه المقولة في مواقع الشبكة العنكبوتية العالمية "الويب" يكتشف المتصفح، وأحيانا بطريق الصدفة المحضة موقعا، لا أشاطر كاتب مادته فيما ذهب إليه، لكنه تميز بالسخرية والهجاء مما "يرغم" على سرد محتوياته ضمن ما سرد أعلاه بعنوان: "تموت الشجرة واقفة.. وفوقها حمامة مرفرفة".

قائمة الأعمال طويلة، وقائمة أسماء من يقفون وراءها من العرب أكثر طولا، ولكن يبقى السؤال، وخاصة في فضاء العمل السياسي: هل اختيار الموت، أو بالأحرى اللجوء إلى الانتحار وسيلة لوضع حد لمسيرة طويلة من النضال هو الخيار الصحيح؟

وفي أتون العمل السياسي، غالبا ما تكرر الأقلام السياسية هذا التعبير عندما تجد نفسها أمام، ومنعطفات حادة، وخيارات يبدو الأكثر سهولة فيها هو الانتحار الطوعي، تعبيرا عن الإصرار في الموت كالأشجار التي يفضل البعض منها الموت وسيقانه ممدودة نحو الفضاء.

كما تُعلِّمنا فضاءات الحياة، والأهم بينها فضاء العمل السياسي أن القبول بالموت الواقف هو نوع من الانتحار، والانتحار كما تراه كتب علم النفس هو هروب إرادي من مواجهة واقع صعب ومعقد، ومن ثم فهو في جوهره هروب طوعي عند نقطة الاقتناع بعدم القدرة على المواجهة. ومن هنا نجد العديد من القيادات السياسية العربية، تردد بين حين وآخر، وخاصة عندما تكون خياراتها محدودة، بأنّها تفضل الموت، تمامًا كالأشجار "وهي واقفة"، بدلا من القبول بشروط مجحفة تعتبرها حينها أنّ القبول بها فيه الكثير من التفريط بالمبادئ التي تؤمن بها، وتناضل من أجل تحقيقها.

كُتب التاريخ السياسي تُعلّمنا أيضا أنّ العمل السياسي، وخاصة الجماهيري، لا ينحصر في موقف واحد، ولا يقاس تاريخ الشعوب ومواقف القيادات التاريخية من خلال قرار "استثنائي" اتخذ في ظروف استثنائية معقدة وآنية.

وإذا ما قبلنا بالتعريف العام للأسباب التي تدعو الفرد إلى الإقدام على الانتحار بأنّه ناتج عن "شعور بالغضب واليأس لدى بعض الأفراد تجاه العالم الخارجي، نظرًا لأنّهم يعتقدون أنّ هذا العالم لا يفهمهم، وليس هناك من يهتم أو يشعر بهم".

وبأنه "قرار ذاتي يتخذه شخص راغب بتدمير ذاته والاستقالة من الحياة مع رفض لاستمرارية الحياة؛ انعكاسا لمتغيرات خارجية لا تقوى الذات على تحملها أو التفاعل معها".

وبأنّ التعريف النفسي للانتحار: "هو نوع من العقاب الذاتي والانتقام من الذات وإلحاق الأذى بالذات".

إذا انطلقنا من كل كذه التعريفات على المستوى الشخصي، وحاولنا نقلها من الحالة الفردية، إلى الحالة الجماعية التي تعبر عنها مقولة "الأشجار تموت وهي واقفة"، بوسعنا، من خلال الربط بين الإثنين أن ترديد الثانية في العمل السياسي هي بمثابة "انعكاس لمتغيرات خارجية لا تقوى الذات على تحملها أو التفاعل معها". والذات هنا هي المجموعة السياسية التي تفضل الانتحار وهي واقفة.

العمل السياسي طريقه طويلة ومعقدة، ومن قرر السير فيها عليه طرد أفكار الموت الواقف من مشروعه.