علي بن كفيتان بيت سعيد
ذلك اليوم لم يكن عاديًا؛ لقد ارتجف هاتفي النقّال كما لو دخله أحد من عوالم أخرى بحكم خاصية الاهتزاز، وظل يطلق صيحاته طوال ذلك النهار مخبرا عن روح جديدة كان الكل ينتظرها وعندما تصفّحت الرسائل على "الواتس آب" وعلى "الفيس بوك" اللذين ينشط حسابي من خلالهما وجدت تهاني وصورا بل وأغاني مفعمة بالرضا والطمأنينة، لم أجد فيها جديداً، سوى تلك الزهور المصاحبة للتعليقات فكلها كانت يانعة وتم قطافها حديثا لهذه المناسبة، والجميع يحمد الله على نجاة القافلة.
لقد سار الركب بعيداً وظنّوا أنّهم على الطريق المؤدي إلى رحاب الواحة الموعودة لكن الدروب باتت متشابهة والدليل ليس هو ليس ذلك العجوز ذو الجفون شبه المغمضة الذي يسير حافيا على رأس القافلة ويمشي خلفه الجميع بتؤدة بمن فيهم رجال يعرفون الأرض ويجيدون المناورة فلا يهمهم أن يكون معهم زاد كثير، فالزاد هو تلك البندقية التقليدية التي يجيد صاحبها استخدامها في أحلك الظروف لذلك الوزن الزائد ليس له قيمة عندهم لأن بقاءهم مرتبط بعد الله عز وجل بخفّتهم في إطلاق النار على الصيد، وسلامة ركابهم التي يقدمون رعايتها على أنفسهم في نيل حظها من المرعى وضمروها جيداً لتمخر بهم عباب الصعب دوماً.
جرت المقادير الإلهيّة التي لا اعتراض عليها وضلت بوصلة الرجل الذي يقود القافلة للوصول إلى الواحة وخلفه من خلفه من المستكشفين الجدد، كانت العير محملة إلى أنصاف قوائمها الأربعة بكل أصناف الطعام وأدوات التخييم وحتى بالكشافات التي تعمل بالطاقة البديلة، وأجهزة تحديد المواقع التي لا تخطئ على المتصفح العجوز (جوجل) وبعد مسير يوم وليلة اختفى الدرب وحلّ الليل البهيم في تلك الصحراء الموحشة.. تمالك الرجل نفسه وأوهم الجميع بأنّ الأمر تحت السيطرة فأناخ ركاب القافلة خلف تلك الطعوس التي تنثرها الريح في كل اتجاه ولم يقلقه سوى نسيانه لنظارته الشمسية غالية الثمن التي أعدها لهذه المهمة.
نقل لنا الأولون من خبراء الدروب بأنّهم ينامون مبكراً ويقومون في الهزع الأخير من الليل يتوضؤون لصلاة الفجر ويؤذن الحادي ذو الصوت الرخيم بأعلى صوته حتى تسمع تلك التخوم المقفرة ومن فيها من إنس وجن صوت من استطاعوا ترويض ذلك القفر بإيمانهم اللامتناهي بالخالق عزّ وجل، ثمّ تجدهم يوقدون نارهم الهادئة فتجد عليها إبريقاً أكل عليه الزمن وشرب يغرغر من فمه كالجمل الهائج المربوط في طرف القطيع كي لا يقدم على قضم رأس أحد أو يجهض أبناءه الذين باتوا في أحشاء الإبل، في حين تتصاعد رائحة الخبزة التي مدادها الماء والملح فقط فيأخذ كل نصيبه بهدوء من إفطار متواضع يسد الرمق ويكبح جماح الكرش التي تتطلع دوما للنمو، وقبل حلول النهار تجد القافلة تسير بسمو خلف العجوز إلى منابع الحياة و بر السلامة.
خيم صغيرة متناثرة، رجال متثاقلون، و إبل منهكة من حملها الذي لم يسقط عن ظهورها طوال يومين، فزعيم القافلة منح التعليمات بأن تظل الإبل كذلك تحسباً لأي ظرف طارئ ولم يتم إطعامها فقد نسى من خطط للقافلة علف الإبل ولم يتم إطلاقها لتأكل من خشاش الأرض طوال فترة المسير، بينما تندس الأيدي الناعمة إلى داخل حمولة النياق لأخذ علبة بسكوت من هنا، وقطعة جبن من هناك، ولم ينسوا حتى إحضار "الكورن فلكس" ونوق القافلة لا تخفي اعتراضها على ذلك الحمل الثقيل وجوعها الشديد عبر تغريداتها المتكررة طوال الليل أو عند اقتراب إحدى الأيادي الطامحة للفطور الراقي من على ظهورها.
طلعت الشمس واشتد الحر والكل يسأل متى يتم استئناف الرحلة وإلى أين المسير بينما هو لا زال يرقد في خيمته الراقية، هرج ومرج، يقوم الرجل من سُباته يأخذ بيده عبوة مياه معدنية وبالأخرى فرشاة أسنان تعلوها كومة من معجون ذي رائحة نفّاذة.. أتوه أعضاء الحملة جميعًا فقال لهم بكل برود: لقد ضعنا.
alikafetan@gmail.com