علي كفيتان
سَكَن المكانُ بعد نَشَاط يومي دؤوب في صباح ذاك اليوم، ذهب من ذهب وبقي من بقي، خرجتْ النساء المتحزِّمات الى نصف الركبة بثيابهن الرثة المخصَّصة لمهمات العمل اليومي، واعتمرن عمائم لحفظ شعورهن تم إخراج الموشي إلى الفناء "عسكر"، والحوض مملوء بالمياه، والأطفال يلعبون تحت شجرة التين الكبيرة، ورائحة العطور البرية تفوح في أرجاء المكان؛ فالوقت كان بدايات الصيف في ريف ظفار؛ حيث تتفتح الزهور وتزهو الأرض باخضرار شجرة السغوت (المشط)، كم هو لون أوراقها زاهٍ وجميل، وكم هي رائحة زهورها فوَّاحة كما يسمونها أبناء الريف (بيّت)، المكان آسر للألباب، لا تزال روائح ذاك الزمن البعيد لا تفارق كل من عاش فيه، واستمتع بأيامه ولياليه المقمرة الجميلة.
وفي وقت الضُّحى، ستجد الجدات مع أباريقهن البيضاء الناصعة في ظل شجرة بعيدة يصلين الضُّحى، ويسبِّحن الله، ولا حديث غير حديث الهداية والمحبة، تنادي تلك الطاعنات في السن الأولاد ويمنعنهم من الذهاب بعيدا خوفا عليهم من المجهول، ومع ذلك تسمع ركض كتيبة الأولاد والبنات الصغار في كل مكان وهم يسرحون ويمرحون، غير آبهين بصيحات هؤلاء العجائز القابعات خارج حدود الزمن. في الناحية الأخرى، يبكي محمد المعاق في قدميه لعدم قدرته على اللحاق بالركب، يعود سالم ويساعده، وتأتي الأم من مفازة بعيدة وتأخذ محمد وتمسح دموعه، وتركض به حتى سبقت الجميع ضحك محمد، ولكن عبرة في عينيه أبت النزول، وظلت مترقرقة في خفايا نفسه البشرية البريئة.
العرق يتصبَّب من أطراف وجوههم يتراكضون إلى حوض شرب الماشية يغسلون بهدوء خوفاً من الأمهات والجدات المتربصات بالمكان، وكم هو طعم المياه جميلا عندما تشربه من ولف التانكي الحديدي (خزان المياه)، يتزاحمون عليه وكأنهم أسراب عصافير تنقر المياه من ذلك المكان في يوم صيف لاهب، بعد ذلك لا بد من مهارات وهنا جاء دور الصيد حيث يقوم الأولاد والبنات معا بنصب الشرك للطيور، وهو عبارة عن صفرية قديمة مهملة وعود حطب صغير مربوط بخيط رفيع إلى عتبة المخبأ السري؛ حيث يختبؤون جميعا بلا حراك، يضعون الأرز كطعم تحت الصفرية المحمولة على تلك الخشبة الصغيرة، وما إن تدخل الطيور المسكينة لتلتهم الأرز يقوم الصياد بجر الخيط بكل حرفية لتسقط الصفرية على الطيور، ويتسابق الجميع إلى الميدان، ومن ضمن الطقوس أنْ يحمل أحدهم قطعة قماش لتغطية الشرك، بينما يدس أحدهم يده للداخل لالتقاط الغنائم، وعلى الفور لا تسمع إلا التكبير، وترى العصافير بلا رؤوس، يذهبون بغنيمتهم إلى النار المتقدة منذ أشهر لتدفئة المواشي بالقرب من الزرائب، ويضعون صيدهم على تلك النار التي لا ترحم، وفي غضون دقائق تنكمشُ أجساد العصافير، ويلتقطها الصغار وهم يركضون في كل مكان، وفي الغالب لن يستمتع الجميع بهذه الوليمة.
ومع حلول الظهر، رجعوا جميعاً إلى شجرة التين الأم في وسط القرية؛ حيث يعود الجميع -النساء والأطفال- وهذه الفترة مُخصَّصة للراحة وتبادل الحديث، وحتى للاهتمام بالمظهر العام، خاصة النساء ستجد إحداهن تدلك نفسها بالكركم الأصفر، والأخرى تضطجع على جارتها لتنظف شعرها، والثالثة تكحل عينيها وتمشط شعرها، بينما الأطفال يتسلقون الشجرة، ويجلبون ثمار التين غير الناضجة ويأكلونها بنهم شديد، تذهب الجدة إلى النار بالقرب من زرائب الماشية، وتنقب في أعماقها لتستخرج خبزة عملاقة تفوح رائحتها في كل مكان، هنا يتجمَّعون حولها الصبية وهي تحمل الغداء على رأسها إلى مجلس القرية تحت الشجرة وارفة الظل، كل منهم نال نصيبه من الخبزة الريفية والحليب الطازج الممزوج بالشاي الأحمر القاني.. إنه خليط لا يعرفه إلا من تذوقه في تلك الحقبة البعيدة.
دائماً ما تجلس تلك السيدة القرفصاء، وتتذمَّر من الصبية، وأخرى تلاحقهم بدعواتها الخبيثة، ولا سبب يدعو لكل تلك الجلبة مُجرَّد كره أزلي للطفولة فهاتين السيدتان أنجبتا منذ زمن بعيد، ولم يعد لديهما ما يهتمان به غير الأبقار والعجول، ولكن دائما كتيبة الأطفال لديها أسلحة دفاعية فعَّالة ضد مثل هذه الأعمال، يجتمعون في العادة بعيدا عن المكان لمناقشة أمر السيدتين المزعجتين، ويتم استبعاد البنات والأولاد غير ذوي الثقة من هذا الاجتماع الطارئ، ويتخذ القرار العقابي؛ ففي عصر ذلك النهار قام اثنان من الأشاوس بفتح حظيرة عجول إحدى السيدتين، وبين عشية وضحاها أصبحت طليقة في الوديان تركض في كل حدب وصوب، وجميع أهل القرية خلفهم لإعادتهم الى الحفظ والصون، بينما يقبع المتمردان على جذع شجرة التين مبتسمين لبعضهما البعض، وأكثر ما يفرحهما هرولة السيدة صاحبة المال وطلبها للنجدة. وبعد جهد جهيد، وقبل المغرب بقليل أعيد القطيع الصغير إلى مقره وسكنت القرية. وفي الصباح، فهمت السيدة الرسالة لأنها وجدت آثار الأقدام قرب المكان، فنادت الأطفال بهدوء وحنية غير معتادين، وأهدتهم جميعاً قطع الخبز، ووعدتهم بأنْ لا تتذمر منهم مجدداً.
حَفِظ الله جلالة السلطان، وأدام عليه نعمةَ الصحة والعافية والعُمر المديد، وحفظ عُمان وشعبها من كل الشُّرور والمحن.
alikafetan@gmail.com