أنصاف الحقائق

 

 

مسعود الحمداني

 

كثير من المسؤولين لا يقرأون ما يُكتب، وإذا قرأوا لا يفهمون، وإذا فهموا لا يقبلون نقاش أفكارهم، وقراراتهم، ولا يعترفون بأخطائهم، وحتى وإن كانت أخطاؤهم لتنوء بها الجبال، ويتحدث بها القاصي والداني، غير أنهم لا يستمعون إلا لما يرغبون في سماعه، ولا يعجبهم إلا طنين آذانهم، ويعتقدون أنّ كل شيء يقررونه أو يفعلونه لا يقبل القسمة على اثنين، ولا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه.

ومن وراء مثل هؤلاء المسؤولين زمرة من الحاشية، يطبّلون، ويزمّرون، ويهللّون.. ويكبّرون أحلامهم، ويعظمّون أفكارهم، وينقلون لهم ما يسر خواطرهم، مهمتهم تزيين الواقع، وتزييف الحقائق، وتضخيم "الأنا" لدى رئيسهم، يُسمعونه ما يريد سماعه، لا ما يجب سماعه.. ولذلك تأتي القرارات الارتجالية التي يدفع الآخرون ثمنها، والآخرون هنا قد يكون فردا.. أو وطنا.

ومن أخطر الأمور التي تعيق العمل، وتضعف الأداء، وتطرد الكفاءات هي  التقارير "السرية" التي تنقلها هذه "الحاشية" للمسؤول بسوء نية، لدفعه لاتخاذ قرار غير مدروس ضد موظف ما، أو لتصدير قرار لا يخدم مصلحة عامة، أو لاتخاذ قرار لصالح جماعة معينة منتفعة، أي أن يكون القرار "مفصّلا" تفصيلا دقيقا على فئة دون فئة، (تماما كما يتم الإعلان عن وظيفة نجار يمتلك شهادة زراعة ويبلغ من العمر واحد وأربعين سنة بالضبط!!)، فتأتي مثل تلك التقارير المرفوعة لهذا الغرض مزينة بأفخم العبارات، وأجمل الكلمات، مليئة بالإيجابيات، منزوع منها السلبيات، فيتخذ ذلك المسؤول قراره، وبعد مدة تظهر الآثار الجانبية السيئة، ويضج الناس، فيتراجع عن قراره السابق، ولكن بعد أن تخرب مالطا، وبعد أن يأكل (الجراد) العظم واللحم، وبعد أن يستنفذ القرار غاياته وأهدافه التي صدر لأجلها.

وفي المقابل هناك نوع آخر من التقارير تحتوي على (أنصاف الحقائق)، وهو أن يأتي التقرير المرفوع للمسؤول ببعض الوقائع، ويخفي الحقائق الأخرى، تماما كمن يقرأ الآية الكريمة: (فويل للمصلين..) ولا يكمل، فإن كان الشخص أو الموظف المرفوع عنه التقرير من المرضيّ عليهم من قبل (المسؤول الأصغر)، أو ممن تربطهم به علاقة ما، فإن التقرير يُصاغ بطريقة تناسب الوضع؛ حيث يتم اخفاء بعض الحقائق السلبية، وإظهار كل الإيجابيات، وفي أحيان تأليفها، وتسويغ القرار تحت إطار قانوني، لكي يتم اتخاذ القرار المناسب الذي يتماشى ومصلحة ذلك الشخص..

أما إن كان الشخص المرفوع عنه التقرير غير مرضيّ عنه، أو لا يرتبط بعلاقة مع ذاك المسؤول (الأصغر) فإن التقرير يصاغ بشكل سوداوي، مزودا بالرأي القانوني الذي لا يدع مجالا لاتخاذ أي قرار إيجابي تجاهه، وقد تكون حالتا الشخصين متشابهتين، ولكن (الصياغة والمبررات) مختلفتان، بناء على ما يُراد له القرار.

هذه الممارسات الإدارية موجودة للأسف في مؤسساتنا الحكومية والخاصة، وهي تعتمد على مسؤولين اتخذوا من المنصب سلطة ونفوذا، فسلّطوا سيوف قراراتهم على رقاب البلاد والعباد، فالدوائر المغلقة التي تحيط بالمسؤول الأكبر تعيقه عن النظر إلى المشهد الكلي، وتدفعه أحيانا لاتخاذ قرارات مكتبية لا تخدم المصلحة العامة، وتجعل من الدوائر المقربة منه وحدها المسيطرة على رفع التقارير، وممارسة لعبة (أنصاف الحقائق)، فهناك مسؤولون سمّاعون لما ينقله لهم (الوسيط) الذي سلّموه مقدّرات الآخرين، والذي يقدّم تقاريره اليومية عن الوضع سواء في داخل المؤسسة حسب مزاجاته، وبذلك يكتفي أولئك المسؤولون بما يرونه، ويقرأونه، ولا يمدون نظرهم ليتعرفوا على الحقائق خارج النوافذ والأبواب المغلقة، وبذلك تضيع حقوق الأفراد، ويغرق الوطن ـ أي وطن ـ في الظلام والفوضى.

 

Samawat2004@live.com