طنين


علي بن كفيتان بيت سعيد
كم هو مُزعج طنينك أيُّها الزائر غير المرئي، لقد أقلقت مضجعي قلبتني في كل الاتجاهات وجربت جميع الأوضاع المُتعارف عليها في الخلود للراحة بما فيها وضع أكوام من القطن في أذني فذهبت لتُنقب في أنفي الشاغر وعينيي شبه المُغمضتين، آه منك أيُّها الثائر من مملكة مُتناهية الصغر، لقد استعنت عليَّ بكل لعنات الطبيعة، وأنت تدس آلاف الإبر المخملية الدقيقة في جسدي، وأصبح ظهري في تلك الليلة مثل مطار هيثرو اللندني الذي لا تهدأ فيه عمليات الإقلاع والهبوط. لقد مارست أيها الصغير كل الأساليب غير التقليدية التي جعلتني أرقص على فراشي حتى الصباح وأنا نائم.
منَّيتُ نفسي بأن استمتع بهدوء المكان وبُعده عن المملكة الآدمية المُزعجة، كان في الجوار قطيع من الأبقار المتوحشة وبمجرد رؤيتي نخرت ورفعت أذنابها وآذانها عالياً في اتجاهي وعيناها تركز بعدوانية غير مسبوقة بحثت عن سلاح لأتَّقي به تلك الحيوانات المُتأهبة حولي، فلم أجد سوى بضع كلمات تعلمتها في صغري يُخاطب بها الراعي قطعان الماشية فردَّدتها وأنا خائف ولكن مفعولها كان حاضرًا هنا فكَّرت في نفسي كيف استطاعت تلك الوحوش أن تفهم تلك الترنيمات وهدأت ورجعت تأكل العشب الأخضر بكل شراهة حولي طوال تلك الليلة العصيبة.
أثناء غفوتي الوحيدة رجعت بي الأحلام إلى طقوس الختان في مملكتنا القديمة حيث كانت يحدثني النَّاس عن ذلك اليوم المشهود فكل قبيلة أو أسرة يكون لها أيامها السنوية لختان الذكور وغالبًا ما يكون المكان معروفاً وفي إحدى حواضر المدن، وحسب حديثهم فالمختون يكون على أعتاب الزواج وغالباً ما يُخطب له في ذلك اليوم ويتزوج بعد أسابيع، العيادة عبارة عن رجل يحمل أداة حادة وقطعة خشب وهذا هو كل شيء فلا تخدير ولا رباط ولا مراهم ويطلب من المختون الرقص بالسيف عقب ختانه، ربما أشياء قد لا يقبلها العقل اليوم ولكنها كانت قائمة، طوال النهار تتوافد الهبايب (جمع هبوت فن ظفاري يُقدمه الرجال) من كل حدب وصوب وفي المساء ترقص النساء على وقع بارق سيوف الرجال وأصواتهم التي تمدح كل واحدة على حدة وهي تتقدم أبرز المُجيدين لفن السيف في سيمفونية لا يجيدها إلا هؤلاء البشر المنقرضين من مملكتنا إلى غير رجعة.
قمتُ من غفوتي وحاولت استعادة رباطة جأشي أمام الهجوم الكاسح من قبل ملك المكان بلا منازع فأوقدت ناري علي أجد في دخانها وسيلة دفاعية ولكن الحطب كان مبتلاً والأرض رطبة وحاولت أن انفخ الروح في قطع الحطب المُشبعة بالمياه ولكنها لفظت أنفاسها بين يديَّ فقذفتها جانبًا وسلمت أمرى لله وفي تلك العتمة انبلج النور بين خيوط الفجر الأولى فاستعدت ما بقي من جأشي وقلت في نفسي أتى الفرج وسيرحل المارد قريباً إذا ظهرت الشمس.
قمت وافقاً على قدمي وأحسست بالنَّصر رغم الإصابات البالغة التي ألمت بي فلولا انتظار إشراقة الشمس لرحلت نفسي بين خراطيم الطنين وحوافر الأبقار الهائجة، تلمست جسدي فوجدته سليماً ولا أثر للدغات التي كنت أعاني منها طوال الليل، انتظرت حتى تشرق الشمس فعلا لا أضرار جسدية، والحطب يابس تمامًا والنَّار متقدة والأرض ليست مبتلة من حولي واتَّضح لي أنني قضيت ليلة في واحدة من أجمل بقاع الدنيا ولكن ذلك الطنين هو الذي قض مضجعي.
alikafetan@gmail.com