"التشيبول" في التجربة الاقتصادية الكورية

محمد أنور اللواتي

ركَّزت التَّجربةُ الاقتصادية الغربية على قيام شركات متخصصة، متبنية نظرية "آدم سميث" في مبدأ التخصص الذي يقود إلى الفعالية وزيادة الإنتاجية، ومتبنية كذلك تجربة الثورة الصناعية التي أسست لقيام صناعات متخصصة، والتي عُدت من بديهيات الاقتصاد في التجربة الغربية لزيادة الإنتاجية. إنَّ التخصص أكسب تلك الشركات ميزة نسبية حيث تتخصص في مجال ضيِّق، وتوكل بقية عمليات السلسلة الاقتصادية لمن هم أكثر تخصصاً في ذلك المجال. ولتقريب الفكرة، فإنّ شركة أبل الأمريكية مُتخصصة في أجهزة الهواتف الذكية، بالإضافة إلى بعض الأجهزة المُشابهة، وتوكل كل جزء من سلسلة التوريد إلى مُختصين في ذلك الجزء.

في المُقابل، وعلى الجهة الأخرى من كوكبنا، تقف التجربة الكورية الجنوبية، وهي تجربة عملاقة لا تقل عن الأولى أهمية. إلا أنها عملت على قيام شركات تجارية عائلية عملاقة، تؤمن بالتنوع الاقتصادي في عملياتها، وتعرف بـ "التشيبول". تمتلك تلك الشركات العائلية شركات فرعية تستثمر في كل مفاصل الحياة في كوريا الجنوبية، من الاستيراد والتصدير، والتجزئة، والقطاع المالي، والصناعات الخفيفة والثقيلة، وغيرها. ويعود تاريخ إنشاء هذه الشركات العملاقة إلى ستينيات القرن الماضي، حيث ساهمت سياسات الحكومة الكورية في إيجاد مجموعة من المستثمرين للمُساهمة في تحمل أعباء إعادة بناء كوريا الجنوبية والتي كانت تُعاني من الفقر المدقع، وانهيار شبه كامل في مفاصل الحياة بسبب الاستعمار الياباني، والحرب العالمية الثانية، والحرب الكورية. وكان العامل الأبرز لإنشاء هذه الشركات هو التسهيلات الائتمانية الحكومية في مُقابل تحمل هذه الشركات أعباء اقتصادية واجتماعية تسهم في حفظ الأمن القومي الكوري الشمالي. وكمثال شركة سامسونج، التي تُعتبر أكبر شركات التشيبول الكورية، لا يقتصر إنتاجها على الهواتف الذكية مثل أبل الأمريكية، بل أيضًا تعمل في الصناعات الثقيلة، وقطاع الصحة، والقطاع المالي، والتأمين، وتوليد الكهرباء، وغيرها الكثير.

إذا أمعنَّا النظر في الواقع الاقتصادي الكوري اليوم، نجد أنَّ نجاح التجربة الكورية يُعزى إلى شركات "التشيبول". حيث تساهم هذه الشركات مساهمة كبيرة في الناتج المحلي الإجمالي، ودعم الميزان التجاري لكوريا الجنوبية. إنّ تاريخ تأسيس هذه الشركات العملاقة من خلال تسهيلات ائتمانية حكومية أوجد نوعاً من الرابطة الأخلاقية بينها وبين الحكومة تتمثل في واجبها تجاه الأهداف الوطنية، وخلق الوظائف، والقيام بصناعات عالمية، والمساهمة بقيام اقتصاد متين. وعملت هذه الشركات منذ تأسيسها على المساهمة في الخطط الاقتصادية والاجتماعية التي تُعلنها الحكومة الكورية، وتعزيز مكانة كوريا الجنوبية عالميًا من خلال قيام صناعات قادرة على المُنافسة عالميًا، وتأهيل الكادر البشري الكوري عبر توظيف قيادات وعمال كوريين. وتخضع هذه الشركات للمحاسبة على أيّ تقصير وتجاوز، وتخضع هذه التجربة للمراجعة دوريًا للقضاء أو الحد من عوامل ضعف هذه التجربة، من خلال تشريعات جديدة تُحقق العدالة، وتمكن قيام شركات جديدة قادرة على منافسة الكيانات القائمة.

السياسات الحكومية في السلطنة عملت أيضاً على خلق شركات تجارية لأفراد وعائلات عبر تسهيلات حكومية سخية من قروض، وأراض، وإرساء عقود حكومية، وأحيانًا خلق ممارسات احتكارية، ودفع مبالغ وهبات مباشرة. إلا أنَّ نتائج ذلك الدعم لم تصل إلى مستوى الطموح من تلك الشركات في خلق صناعات عُمانية قادرة على المنافسة عالمياً، ولا إلى خلق قيادات بشرية وطنية مؤهلة، ولا حتى المساهمة بشكل أساسي في تحقيق السياسات الوطنية في التنوع الاقتصادي وخلق الوظائف. إن كل تلك الشركات تدار من قبل عمالة وافدة تتحكم بكل مفاصلها. إن الواجب يدعو تلك الشركات التجارية، ومن استفاد من الفوائض المالية خلال الفترة الماضية إلى تحمل جزء كبير من الهم الوطني، والمُساهمة في التغلب على التحديات القادمة، والعمل على تحقيق الخطط والبرامج الوطنية. كما إن الحكومة مطالبة بإصلاحات اقتصادية في آلية عمل تلك الشركات، والعمل على إدراجها في سوق المال لزيادة الحوكمة فيها، وتركيز عملها في مجال مُعين، لتؤهلها للنمو عالميًا، وتعبد الطريق للشركات المنافسة للظهور، والشركات الصغيرة والمتوسطة للنمو.

*محمد أنور اللواتي
كاتب اقتصادي
[email protected]

تعليق عبر الفيس بوك