على غرار "حكاية الطالب كيودوك"

 

هاجر السعدية

باحثة بجامعة السلطان قابوس

 

على غرار المقال المنشور للأكاديمي الدكتور سيف المعمري "حكاية الطالب كيودوك"، أقدم هنا ردا وربما مجرد "محاولة لتفكيك وتفسير الوضع الراهن" قد تعيننا على فهم الواقع المعاش في مجتمعنا العماني، وعلى ندرة وجود الطالب "كيودوك".

يقدم مقال الدكتور المعمري عدة تساؤلات منطقية وتأملية في الوضع العربي الراهن - عموما والمجتمع العماني خاصة - الذي يمشي نحو نفق مجهول المخرج. وهذه التساؤلات تشكل إعادة إنتاج لكل حوار ومؤتمر علمي يمس العلوم الاجتماعية والتربوية.

لا بأس يمكنني من منطلق حسي المعرفي المتواضع أنّ أقدم أسبابا واقعية أقرب مما تكون متعالية على واقعنا الحالي أو إن صح التعبير عمل "غربلة" للواقع الاجتماعي والنفسي. وهنا استعرض المقولة التي وجدتها أقرب وصف يلامس الحال الخليجي عامة والعماني على وجه الخصوص؛ وهي مقولة البوعزيزي "إنّ الخليج يضع معنًى غير عن معناه حيث يقفز على واقعه".

حتى نفكك عليّة الوضع الراهن علينا النظر إلى التكوين النفسي والاجتماعي للفرد، الفرد الذي يمثل عضوا فاعلا في المجتمع الخاضع للتحليل، فإن الأجيال لدينا تقوم على مرأى والتماس حقيقة أن القوة في مجتمعنا تستمد من المال وليس العقل، فالعقل والفكر والمعرفة تمثل قوة بالنسبة للمترفين، المترفين الذين ليست لديهم مشاكل تجاه المادة، ويبدو لي من عيوب المال يختصر المسافات إلى القوة أمام الطاقات المتوقدة والمفتقرة له.

ومن هنا فلا يمكننا أن نلقي اللائمة على الفرد الذي نشأ في بيئة فقيرة، ونطلب منه أن يتسلح بقوة العقل والتفكير المنطقي والحر من خلال التعليم والقراءة وهو يفتقد أساسيات حقوقه الوجودية في الحياة، ويعاني من تراشق الآخر له، ومراقبة المجتمع له؛ حيث يشن عليه حربا باردة لأدلجته.

كل هذه العوامل تسهم في خلق أفراد مهزوزين نفسيا، مشكلّين من هذا الواقع فئتين: فئة تعيش من أجل الآخر وعلى إملاءات الآخر والمجتمع، وفئة ينعتها المجتمع بالعاصي والمتمرد، وهذه الفئة الأخيرة تعيش على قوة الإيمان بالعقل والحرية وفي الغالب تفتقر لقوة المادة، وقد تمثل أقلية من المجتمع.

فالطالب كيودوك محظوظ ببيئته ومجتمعه في حين هؤلاء اللذين نشفق عليهم هم أبناء مجتمع يحتقن فيه الطفل أول ما يولد بحقنة "المرض النفسي" وليس أدل على ذلك: حين نتناقل خبر مولود جديد لأحد أفراد الأسرة نبحث عن كيف غدا شكله؟ جميل؟ يشبه من؟ وفي حال إنّ الأم قبيحة الأنف والشعر بمرأى الآخر أو الأب نتهافت: "كيف طالع شعره؟ وكيف خشمه؟". كما يوجد لدينا منظور مغلوط للحياة؛ فالحياة لدينا لا تحتمل الخطأ بسبب إحاطتنا بالأوصياء إلى الحد الذي نكابر فيه على طبيعتنا وفطرتنا. هذا والكثير من ممارسات المجتمع ومفاهيم مشوهة للجمال تؤكد لي بأنّ الخلل في مجتمعنا هو خلل نفسي جاء نتيجة ثقافة مجتمعيّة غير قائمة على المنطق والإنسانيّة.

بيد أننا لم نتوصل ولم نتذوق بعد لذة وفلسفة "العلم من أجل العلم وارتقاء الإنسان" بل من مشكلة العلم لدينا أنّ التعليم في وقت سابق كان يحقق حرًاكا وترفا ماديا، هذا ما يعني أنّ الخلل يكمن في القفزة التي قفزها النفط في حياتنا مما حقق حراكات بنيويّة في البنية الطبقية، وعزز من استفحال الظواهر والمشاكل الاجتماعية.

حين ينشأ الفرد في أسرة فقيرة ويرى معاناة أسرته في تحقيق العيش الكريم لهم، فهو يتّجه بتكوينه النفسي والطبيعي للإنسان إلى الثورة على ذاته، ويتشكل لديه هاجس أن ينتزع وضع أسرته الطبقي الراكد في أسفل مستويات البناء التراتبي، وما عليه تحقيق ذلك إلا بالتعليم وليس العلم، فيعي وقتئذ أنّ اكتساب التعليم وتجاوز مراحله لابد أن يتحلى بالجلد والصبر ليس إلا. فهذه المخادعة التي خدعها النفط لنا باتت اليوم ظاهرة للعيان أمام سوء التخطيط والعبثية في مجالات عدة، كما عرّت لنا مدى حجم القفزة التي قفزناها على واقعنا من غير أن نحسب حساب تبعاتها إزاء تكويننا النفسي والبناء الطبقي للمجتمع. ويمكننا مقاربة ومقارنة هذا الحال ببلد المغرب العربي الدؤوب على الإنتاج والتنظير في العلوم الاجتماعية. فبرغم سوء أحوالهم نتيجة أسباب سياسية وتنظيمية وتخطيطية واقتصادية، إلا أنّهم يتميّزون بتذوقهم وتأصيل فلسفة العلم من أجل العلم لا علاقة له بالحراك المادي لطبقة الفرد.

تعليق عبر الفيس بوك