عبيدلي العبيدلي
تجتاح الفضاء الفكري العربي اليوم، وعلى وجه الخصوص تلك المساحة الضيقة التي يشغلها المثقفون منه، موجة عارمة من جلد الذات، يستعير من يمارسها، أو بالأحرى ينتقي، مجموعة من الأحداث السوداوية السلبية التي عرفتها البلاد العربية على امتداد السنوات الست الماضية. خطورة هذه الحالة السياسية مظهرًا، الفكرية جوهرًا أنّها تقود تلك الفئة، التي رغم ضيق حجمها لكنها تتمتع بتأثير لا يمكن تجاوزه، نحو حالة مدمرة من اليأس الذي ينتشر بسرعة فيروسية كي يشكل حالة عامة تقود الأمة برمتها نحو مهالك اليأس بعد أن تشدها نحو دهاليز الإحباط.
ليس هناك من ينكر أننا، كعرب، نقف اليوم أمام منعطف تاريخي، تتمظهر معالمه في وضع أنفسنا أمام خيارات صعبة، تعود جذورها إلى مجموعة من الهزائم العسكرية، والسياسية، والاقتصادية والاجتماعية، التي عرفناها خلال ما يربو على نصف قرن من الزمان، يمكن رصد الأهم من بيها في النقاط التالية:
فعلى المستوى العسكري، عصفت بنا مجموعة من الهزائم في مواجهة العدو الصهيوني غطت بسلبياتها على المعارك الناجحة التي ظفرنا بها ضد القوى الاستعمارية. وشكلت هزيمة يونيو 1967 بكل أبعادها، جرحا عميقا في جسد الأمة العربية ما زلنا نعاني من نزيفه حتى يومنا هذا. ليس هنا مجال الخوص في التفاصيل، ويكفي الإشارة نحو النهايات التي حولت الجيوش العربية إلى هياكل كرتونية أمام قوات الكيان الصهيوني. ومارس العرب قبل أعدائهم نوعا من "جلد الذات"، انغرس عميقا في السلوك العربي العسكري، وتطور إلى ما يشبه انعدام الثقة في أية مواجهة عسكرية مع العدو الصهيوني.
أمّا على المستوى السياسي، فقد تلى تراجع النظام الناصري، ذلك تهاوي الأنظمة العربية "الجمهورية"، يتصدرها نظام عبد الناصر في مصر الذي كان يشكل، حينها، وتحديدا قبل هزيمة يونيو 1967، أملا حاضرًا في أذهان الشباب العربي، عند الحديث عن التمرد على الاستعمار، والخروج من ربقته، والعمل من أجل الوحدة العربية، والنهوض بالاقتصاد العربي وتحريره من قبضة الاحتكارات الأجنبية، اقتداء بتأميم شركة قناة السويس. وجاءت انتكاسات الأنظمة الجمهورية الأخرى، بما فيها تلك التي لم تعلن سقوطها، والحروب الطاحنة التي استعرت نيرانها فيما بينها، كي تصب، هي الأخرى، زيت الإحباط المشوب باليأس على نيران الفشل الذي عانت منه تلك الأنظمة، وتشكل في محصلتها نقطة سوداء تشوه التفكير السياسي العربي، وتحرفه عن مساره التاريخي السليم.
ثم جاءت الهزائم الاقتصادية المتتالية، وفي المقدمة منها خنوع الأنظمة العربية النفطية، بمن فيها دول مثل ليبيا والجزائر، بل وحتى العراق، أمام ابتزازات كارتيلات النفط العالمية، سواء فيما يتعلق بتحديد الأسعار، أو التحكم في الأسواق، أو حتى النهوض بصناعة نفطية تتناسب وحجم الإنتاج العربي من تلك المادة الخام الاستراتيجية، كي تشكل هي الأخرى ضربة قاصمة لطموحات موجة التفاؤل التي سادت الفكر الاقتصادي العربي الطامح نحو التهيؤ من أجل نهضة اقتصادية عربية شبيهة، أو قريبة من، تلك التي عرفتها بعض دول العالم الثالث الذي ننتمي له، مثل النمور الآسيوية. وتحول النفط من سلاح يفترض أن يكون بيد العرب، إلى خنجر سام مغروس في خاصرة مشروعهم الاقتصادي النهضوي.
أمّا على الصعيد الاجتماعي، وهو الأعمق كارثية، فقد وجد العرب أنفسهم، ومند منتصف السبعينيات، إثر اندلاع الحرب الأهلية في لبنان والحروب التي تلتها في الصحراء الغربية، والسودان، بل وحتى في مجتمعات مستقرة اجتماعيا مثل مصر، ينتقلون من مشاريع الوحدة التي سادت الفكر السياسي خلال فترة الخمسينيات والستينيات، إلى مواجهة المد الطائفي، بأوجهه البشعة المتعددة، التي حولت الخارطة السياسية العربية إلى ما يشبه الكانتونات المبعثرة التي تبحث، بشدة عن مأواها، غير الطبيعي، في أحضان القوى العالمية والإقليمية، بما فيها تلك المعادية تاريخيا للمد القومي العربي.
تذكرنا هذه الحالة العربية المغرقة في تشاؤمها، والمترامية في أحضان نظرتها السوداوية بما عرفته اليونان في القرن الخامس قبل الميلاد، عندما كانت اليونان في تلك الحقبة التاريخية ضعيفة ومنتهكة حقوقها على أيدي الإمبراطورية الفارسية في نطاق التنافس اليوناني – الفارسي. حينها، وتحديدا في العام 480 قبل الميلاد، وكما تنقل مصادر التاريخ عما كتبه المؤرخ الإغريقي هيرودوتس، قامت "في بداية الأحداث قوات صغيرة من اليونانيين بسد ممر ثيرموبيلاي في محاولة لصد الجيش الفارسي، بينما التحمت السفن اليونانية بقيادة أثينا بالأسطول الفارسي بالقرب من مضيق آرتميس يوم. كانت نتيجة المعركة التي وقعت في ثيرموبيلاي هي تدمير مؤخرة الجيش اليوناني بالكامل، أما معركة آرتميس فقد انتهت بخسارة كبيرة في صفوف الجيش اليوناني وتراجع للجيش اليوناني إثر معركة ثيرموبيلاي. وقد سمح هذا التراجع للفرس بغزو بويوتيا وأتيكا، بينما انسحبت القوات اليونانية إلى موقع بالقرب من جزيرة سالاميس وبدأت الاستعداد للدفاع عن برزخ كورنث".
وكما يروي المؤرخون، تداعت المدن اليونانية إلى تحالف في وجه الغزاة، و "جرت معركة حاسمة بالقرب من بحر إيجة في مضيق سالاميس بين البر اليوناني وجزيرة سالاميس، وهي جزيرة في خليج سارونيك بالقرب من أثينا. وتمثل هذه المعركة القمة في تاريخ مرحلة الغزو الفارسي الثاني لبلاد الإغريق التي بدأت في عام 4800 قبل الميلاد. وفيها تمكن الأثينيون وحلفاؤهم بقيادة ثيمستوكوليس من هزيمة الأسطول الفارسي الضخم (800 مركب) الذي جاء لغزو بلادهم بأسطول صغير (380 مركب)".
تعلمنا "معركة سالاميس" ، أنه عند المنعطفات التاريخية، وعندما تواجه الأمة خطرا الانقسام والتفتت والخضوع للأجنبي، وتتفشى موجة الإحباط القابلة للتحول إلى حالة من اليأس، تبرز الحاجة إلى قائد مثل ثيمستوكوليس، كي ينتشل الأمة من تلك الحالة إلى حالة أخرى من الانتصار تعيد لها الثقة في نفسها، وتؤهلها للانتصار على نفسها قبل القوى الخارجية. فالهزيمة من الداخل أشد وطأة على النفس، وأكثر خطورة من تلك التي تتجرعها أية أمة علي يد الغزاة من الخارج.