يا حامل الهم ابشر.. إنَّ الهم منفرج

 

 

د.عبدالله باحجاج

هزَّتني ردودُ فِعْل خاصَّة جدًّا جدًّا جدًّا، على مقالي الأخير والمعنون بـ"من أي أبواب الثناء سندخل؟!"، لن أحبسها في نفسي، وسأعلنها بصوت مرتفع، لقد جرحتني نفسيًّا، ومسَّتْ جوهر رسالتي الصحفية، ولولا عِلْمِي بما نفسي، وبما أقوم به من تفاعل إيجابي شبه يومي تقريباً مع قضايا الوطن والمواطن، لهزَّتني من العُمق، خاصة من مريض يخضع لغسيل الكُلى أربع مرات في الأسبوع، أعرفه من الصابرين، والشاكرين، والحامدين، والمصلِّين الذين يحرصون على الصلوات جماعة، خصوصا صلاة الفجر، ورغم الآلام مُعَاناته النفسية والجسدية اليومية، وكان في كلِّ مقال أكتبه، يعلِّق عليه مَدْحًا أو مُلاحظة من قبيل الرأي الآخر، غير أنَّ تعليقاته على هذا المقال كانتْ مُختلفة تماما، وصلتنا مضامينها الشخصية والعامة.

يقول في تعليقاته التي وَصَلتنا عبر "واتساب": مقالك به من الشكر ما يكفي، ومن العبارات والمفردات ما تغطي بقايا ألم من يعشقون الفنان سالم بن علي سعيد وفنه وإبداعه، لكنَّني أقف هنا أمام من عَجَزت قدرته وفاضتْ دمعته، واشتدت حسرته، وضعف عجزه، وقلت حيلته. حقيقةً، لا أدري، هل على كل مريض في بلادنا أن يكون فنانا عظيما ومشهورا؟ وهل على كل مريض ساءت حالته، كما ساءت حالة أبوهشام حتى يحظى بالرعاية وشرف الوصاية والعناية؟ هل على الديوان أنْ ينتظر كل معسر وكل ذي حاجة ماسة للعلاج حتى يصل ويرقى إلى مستوى أبوهشام؟ ويردف قائلا: يبدو أنَّ الأمرَ خصوصي فقط، وخاص جدًّا، لا يستحقه إلا الخصوصيون، ولا يحظى به إلا المتميزون، وربما لا يستحق العناية إلا ذو قدر وحظ عظيم، وتبقي حسرة وحاجة المحتاجين دون أن يجدوا من يقف إلى جانبهم ويستمع لشكواهم، وصراخهم واستغاثتهم وندائهم التي جفَّت في حناجرهم وبُحَّت بها أصواتهم.

إنه عِتَاب الآلام من منظور مرضه، ومعاناته الدائمة معه، ورحلة علاجه بين صلالة ومسقط التي تكون دائما مُتعبة من عدة نواحٍ، ومرهقة ماليا قبل الأزمة المالية، فكيف الآن؟ هذا إذا قبل تحويل المريض بسهولة، نقدر عتابك أخي شفاك الله، ونحس بآلامك، ومعاناتك، لن نُعابتك في تعليقك الذاتي لنا المبطَّن، ولا على إسقاط حالة أبوهشام -شفاه الله وأرجعه لأسرته سالما معافى ومن معه وكل مرضى المسلمين- لأنَّنا نلتمَّس فيها شعورك الذاتي بمقارنة غير عادلة، بين من يتطلع للتحويل لمسقط ولن يجده، وقد يجده بصعوبة أو بواسطة، والكثير محرمون منه، وبين من يسافر للعلاج في الخارج بسهولة، ولأحد مستشفيات مسقط بالهاتف، تبدو هذه المقارنة مسيطرة على نفسية كل مريض، فما بالكم بمريض يخضع لغسيل الكلى أربع مرات في الأسبوع، وظروفه المالية لن تمكِّنه من السفر للخارج لزراعة كلى، مشاعر مقدرة، وهذا حق من حقوقه، وقد تحدثنا في مقالات سابقة عن واقع مرضى الكلي في محافظة ظفار ومعاناتهم، وعن النقص في أجهزة الغسيل، وكيف تضطر وحدة غسيل الكلى إلى العمل لساعات متأخرة من الليل، وربما على مدار الساعة الآن، وهناك مرضى يأتون من ضلكوت ومن سدح للغسيل، وينتظرون دورهم بسبب كثرة المرضى وقلة الأجهزة، وتحدثنا كذلك عن أن الوحدة تفتقد إلى التجهيزات اللازمة مثل الفواصل بين المرضى وأماكن خاصة للنساء وأخرى للرجال وكراسي الغسيل الخاصة بالغسيل، حيث يتم استخدام الأسرَّة في الغسيل. كل مثل هذه القضايا قد خصصنا لها مقالات، فهل كانت صرخاتنا في واد سحيق أم أنها نقلت إلى المدينة، ولاقت آذانا صاغية؟ سنتابع هذه القضية، لننقل صرخاتهم الصامتة في ظل ثقل الجغرافيا الإقليمية وتأثيرها على استحقاق حقهم في العلاج المتقدم والراقي مركزيا -مسقط - أو تأمينه إقليميا، وبالذات في محافظات ظفار ومسندم والوسطى، بحكم الاعتبار الجغرافي وحمولتها المالية المكلفة على المواطنين، كما وصلنا عتاب من أهالي من كانوا يعانون من مرضى السرطان على عدم تناولي وقف زيارات الاستشاريين الدورية في المستشفيات المتخصصة بمسقط إلى مستشفى السلطان قابوس بصلالة، وهذه الزيارات كانت تغني عن زيارتهم لمسقط لمتابعة فحوصاتهم الدورية، فهل تمَّ توقيفها بسبب الأزمة المالية؟ وهل هذا الوقف عاما أم خاصا بمرضى السرطان؟ فقد كانت وزارة الصحة مشكورة تتبنى نهج الزيارات لكبار استشارييها الأطباء بصورة دورية وأسبوعية لتغطية نقص هذا النوع من الكفاءات في المستشفى، ولتخفيف حجم المعاناة على المرضى، وكذلك جهدهم وأموالهم، وتلقى استحسانَ المرضى وذويهم، فلماذا يتم توقيفها الآن؟

لا ينبغي أنْ تطال الأزمة المالية حقَّ المواطنين في الصحة أبدا، فهذا حق مُقدَّس، يجب أن يحظى بكل عناية واهتمام، وتوفير المال اللازم له، فهو من بين القطاعات القلائل مثل التعليم والماء والكهرباء والسكن.. التي ينبغي أن نكبح جماح السياسية المالية والضريبية في المساس بها، لارتباط حق الصحة للمواطن بحقه في الحياة، والأعمار بيد الله، وعدم تأمين هذا الحق سيصبح حق العلاج المتقدم، في الداخل أو الخارج، حكرا على فئات دون أخرى، وبواسطات، لكن، ومع هذا، ينبغي أن نثق في قضاء الله وقدره، فلن يسحب مرضا حق الحياة لأي إنسان إذا ما كان له عمر، لكننا نتحدث هنا عن حق المريض في أن يعيش حياته دون آلام أو بأقلها على الأقل، وبمساواة بين المواطنين. وعلى الحكومة أن تكون سخية مع قطاع الصحة؛ فالأمراض المزمنة في تصاعُد، ففي إحصائية رسمية قديمة تتحدث عن إصابة 1000 مواطن بمرض السرطان سنويا، فكم يصلون الآن؟ وفي تقرير قديم كذلك، جاءت البلاد ثاني أعلى معدل إصابة بمرض السرطان بين الدول الست في مجلس التعاون الخليجي، وفي المؤتمر الدولي لأمراض الكلى بمحافظة ظفار الذي عقد في الثالث من سبتمبر 2016، كُشِف عن تصاعد عدد المرضى وعن الفاتورة العلاجية الضخمة، فقد بلغ عدد وحدات أمراض الكلى في السلطنة عشرين وحدة، وبلغ عدد عمليات زراعة الكلى 1400 عملية؛ منها: 20% أُجريت داخل السلطنة، وكل مؤشرات منظمة الصحة العالمية -كما أشار إليها الدكتور خالد المشيخي مدير عام الخدمات الصحية بظفار في هذا المؤتمر- تفيد بأن أمراض الكلى من الأمراض المزمنة الشائعة في جميع دول العام والتي يترتب عليها إنفاق الأموال الطائلة من قبل الحكومات حول العالم؛ حيث إنها من الأمراض التي تثقل كاهل موازنات الدول والأفراد والأسر، وحتى لو نظرنا للبنية الصحية الإقليمية لهذا المرض في بلادنا، سنجده -وفق تصريحات المشيخي- يتكون من وحدة للكلى في ظفار تحتوي على 22 سريرا، ويبلغ عدد مرضى الغسيل الدموي 165 مريضا، بواقع 22176 جلسة غسيل وفق إحصائية عام 2015، فكيف الآن وعدد مرضى الغسيل البريتوني 7 مرضى في ذلك العام؟! فهل ازدادوا؟ وعلى المستوى الدولي يُقدر عدد مرضى الفشل الكلوي 3.7 مليون مريض، وعدد مرضى الغسيل الدموي 2.6 مليون مريض، فيما يقدر عدد المرضى الذين خضعوا لزراعة الكلى 700 ألف نسمة.

تلكم مُؤشرات لخارطة الأمراض المزمنة على الصعيدين المحلي والعالمي، فهل ستواجه حكومتنا مخاطرها بخفض موازنة وزارة الصحة اسوة بالوزارات الأخرى؟ فهذا مساس بالحق في الصحة، ولا يجب أن يمس؛ فمن مُنطلق حق المواطنين في ثروات بلادهم، يجب أن تعزز موازنة وزارة الصحة لا تقلص، وقد اقترحنا في مقال سابق فرض رسوم وضرائب أو زيادتها على التبغ في البلاد، بمختلف أنواعه، وأن تذهب عوائدها المالية إلى وزارة الصحة مباشرة، تعزيزا للبند المالي لمواجهة تداعيات التبغ على الصحة، وهذا يدعونا إلى تصويب مسارات التوجه المالي المقبل، فالبلاد ليست في حاجة إلى مسايرة الخليج في توجهات الجباية تنفيذا لإملاءات صندوق النقد الدولي، وإنما بحاجة لإعادة النظر الهيكلية البنيوية لموارد الدولة غير النفطية من منظور وطني خالص، وهنا يحتم القول صراحة، أنَّنا نحتاج لانتقائية هادفة ومستهدفة لتصحيح مجموعة اختلالات بنيوية، ولدعم قطاعات مثل الصحة بموارد مالية جديدة، مثل اقتراحنا السابق، دون أن تؤثر السياسة المالية والضريبية الجديدة على التوازنات الاجتماعية في البلاد.

ولله در القائل: يا صاحب الهم إنَّ الهم منفرج، أبشر بخير فإن الفارج الله، اليأس يقطع أحياناً بصاحبه، لا تيأسنَّ فإن الكافي الله، الله يجعل بعد العسر ميسرة، لا تجزعنَّ فإنَّ الفارج الله.. فاللهم فرِّج كَرْب كل مكروب، وهمَّ كل مهموم يا حي يا قيوم.