قصتي مع الكتب

 

 

د. يحيى أبوزكريا

 

 

 

لغة إذا وقعت على أكبـادنا** كانت لنا بردًا على الأكباد

وتظل رابطة تؤلف بيننا  ** فهي الرجاء لناطق بالضاد

 

عشت طفولة غير عاديّة على الإطلاق، فقد كان الكتاب بالنسبة إليّ هو الرفيق والصديق والأخ والحبيب والشريك الوفيّ في كل مسارات حياتي، وكثيرا ما كنت أقرأ بين كتابين إلى خمس كتب يوميا في أيّام الصبا، وهذه القارات الثقافية التي كنت أجوب فيها من خلال القرطاس والورق فتحت ليّ مجالات واسعة، ووفرت لي قاعدة صلبة للشروع في الكتابة والتي لازمتني في وقت مبكّر من حياتي، لم يكن لي أصدقاء كثر كشأن الأطفال كنت وبمجرّد أن أعود من المدرسة الإبتدائية أو المتوسطة إلى البيت أسجن نفسي في غرفة ملأى بالكتب وكانت متعتي كبيرة وأنا أجول في كتب تتناول كل تفاصيل الثقافة من التفسير وإلى قصص الأنبياء إلى روايات فيكتور هيجو والمنفلوطي وعبقريات العقّاد وأيام طه حسين وعبد الحميد بن باديس.

كل الأموال التي كان يعطيني إياها أبي كنت أصرفها على شراء الكتب، وكنت كلمّا أتممت كتابا أكتب على صفحته الأولى: مقروء والحمد للّه.

وعلى الرغم من الانتشار الواسع للثقافة واللغة الفرنسية على الواقع الثقافي الجزائري زمن طفولتي، إلاّ أنّ هذه اللغة لم تؤثّر عليّ قيد أنملة رغم أنني كنت أقرأ الأدب الفرنسي باللغة الفرنسية، فقد كان انجذابي كله إلى لغة الضاد التي نشأت على الحديث بها منذ كنت صغيرا ولا أحسن أي لهجة عربية أخرى، واللغة العربية بالنسبة إليّ شخصيتي ومسلكيتي وحياتي، هذه الأجواء مهدّت لبداياتي في مجال الكتابة، حيث كانت أول مقالة احترافية نشرت لي في جريدة الشعب الجزائرية عن المسرح الجزائري وكان عمري 16 سنة.

وكثيرا ما كنت أستحضر قول عبّاس محمود العقّاد عندما اتهمّ بالعزلة والانطواء والميل إلى القراءة فقال:

ألا يعرف الذين اتهمونا بالعزلة أننا عندما نقرأ كتب الدين نعرف من أين وإلى أين، وعندما نقرأ كتب الشعر نتعرف إلى الأحاسيس البشريّة، وعندما نقرأ كتب التاريخ نعرف حركته والذين أثروا فيه، فنكون بذلك قد أضفنا إلى عمرنا أعمارا وإلى حضارتنا حضارات.

كانت ثورة نوفمبر المجيدة، تسكن شعورنا، وأنا أنتمي إلى جيل الاستقلال هذا الجيل الذي كان يأمل أن يبني الجزائر وفق رؤية ثورة نوفمبر المجيدة حيث ضحّى أباؤنا بمليونين من الشهداء من أجل عزة الجزائر وكرامتها، كان والدي من الثوّار الذين قاوموا المستعمر الفرنسي وتعرضّ للسجن والتعذيب، وكان الجنود الفرنسيون يشقون لحمه بالسكين ويسكبون ملحا على الجرح، وقد عشت طفولتي على وقع تلك الجراح، حيث كثيرا ما كان والدي يريني تلك الجروح ويقول لي هذا ما فعلته بنا فرنسا، وكنت أعيش على وقع استشهاد خالي الذي وضع الجنود الفرنسيون صخرة في بطنه ورموه إلى البحر فمات غرقا مع العديد من شهداء الجزائر، وقد أضيفت إلى هذه التراكمات المآسي الأخرى في واقعنا العربي والإسلامي التي كان والدي حريصا على تلقيني إياها، طفولتي كانت ملأى بالهمّ الحضاري والقومي ومظلومية الشعوب العربية والمسلمة وحق الشعب الفلسطيني وحقوق حركات التحرر التي وجدت في الجزائر موطئ قدم لها، حتى سماها الصحفي الفرنسي جاك لاكوتور كعبة الأحرار الجزائر.

لقد كنت متفوقا في كل المراحل الدراسيّة وأنهيت كل المراحل بتفوّق شديد، وحصلت على العديد من الجوائز، غير أنّ العديد من أساتذتي كانوا يبدون تعبهم لدى تصحيح أوراق امتحاناتي ولم يكن ذلك بسبب رداءة الخطّ، بل كنت أطيل في الإجابة وبشكل يدعو للغرابة والدهشة، فعندما يرد سؤال واحد في مادة التاريخ مثلا، كان جميع التلاميذ يجيبون في نصف صفحة أو صفحة على الأكثر أما أنا فكنت أجيب في أربعين صفحة كاملة، وذلك ينطبق على بقيّة المواد الأدبية والإنسانية، إلى درجة أنّ أستاذة الجغرافيا دعت والدي لتخبره بضرورة الحفاظ عليّ لأنّه سيكون ليّ شأن في المستقبل.

ولم تخل هذه الطفولة من بعض العذابات، حيث تعرضّ والدي إلى مرض أنهكه وبقينا بلا معيل وبدأت رحلة الأوجاع حيث باع والدي المحل الكبير الذي كان يملكه؛ والذي كان مصدر رزقنا وعشنا أياما صعبة للغاية أعترف أنّها ساهمت في إنضاج ملكة الصبر لديّ والتي رافقتني لاحقا في سنيّ المنافي وأرصفة الهجرة من وطن إلى وطن بحثا عن وطن. وعندما دخل والدي إلى المستشفى عرفنا مرارة الجوع، وكانت أمي عندما تريد أن تطبخ تضع في القدر ماء وتضرم النار من تحت القدر، وتوهمنا أنّ القدر مملوءا بالطعام اللذيذ وهو على وشك الاستواء، وكنّا ولفرط التعب ننام ونحن نتعسكر قرب القدر، والذي نرى بخاره ولا نشتم أي رائحة لأي طعام.

وقد علمتني الثقافة أن أكون مستقلا، وقاعدتي في الحياة حر ومذهب كل حر مذهبي، وقد أدّت استقلاليتي عن أي تنظيم جزائري أو عربي أو إسلامي أو دولي إلى تمتين انتمائي إلى الجزائر وإلى كل الجزائريين، وعلى صعيد التكوين الفكري، فأنا مع كل قضايا الإنسان المستضعف من القطب الشمالي وإلى رأس الكاب الإفريقي، و مع كل الأفكار والرؤى والعادات والتقاليد، أنطلق من الجزائر، ومن مبدأ الحرية للجميع ضمن الثوابت التي توافق عليها الشعب الجزائري، ولا يمكن أن أحجر على أي فئة سياسية أو ثقافية، فالحضارات الكبرى تحققّت بفعل التلاقي والتلاقح والنقاش.

ولأجل هذا كنت دائما مع الحوار الهادف والبناء والاحتجاج الفلسفي والجدلي وهذا لن أحيد عنه ما حييت. وهذا لا يعني أنني أقبل النفاق الفكري أو المداهنة، فأنا لا أداهن ولا أماري، معروف في الجزائر والمغرب العربي والعالم العربي والإسلامي، أنني رجل صادق اللهجة، رجل لا يؤمن بأنصاف الجمل، وأثلاث الكلمات، أنطلق مما قاله الشاعر الفلسطيني الراحل معين بسيسو/

هي كلمة إن قلتها تموت.

إن لم تقلها تمت؟

إذن قلها ومت.

ولن أتهاون في كشف ظالم، أو الانتصار لمظلوم حتى لو كان هذا المظلوم في جبال الأمازون، وأعالي جبال الهمالايا.