البحرين: آن أوان المصالحة الوطنية

 

عبيدلي العبيدلي 

البحرين، كغيرها من المُجتمعات العربية الحيَّة الغنية بتجاربها السياسية، هبَّت على سمائها رياح الحراك العربي الذي اكتسب تسميات مختلفة بلغ اختلافها حد التناقض في التوصيف. ودون الحاجة لتقويم ذلك الحراك من خلفيات شمولية، بوسعنا الانطلاق من الظواهر التي ولدها ذلك الخلاف على الساحة البحرينية، والإفرازات التي باتت بصماتها واضحة المعالم على سلوك المواطن البحريني الذي ينظم علاقاته مع فئات ومكونات المجتمع، مع تحاشي، قدر المستطاع توجيه التهم لهذه الفئة أو تلك، أو توزيعها على مكون سياسي دون آخر.  

الصورة العامة، أو بالأحرى المظهر الرئيس لمشهد المجتمع البحريني يرتكز حول مجموعة من المؤشرات التي يمكن حصرها في النقاط التالية: 

على المستوى الاجتماعي، وهو الأهم، هناك شرخ طائفي قابل للاتساع أفقيًا كي يشمل قطاعات أكثر من المجتمع، والاندفاع عموديًا كي يعمق شق الخلاف الذي بات يشطر المجتمع البحريني إلى قسمين متمترسين وراء خنادق وهمية لم تعد مقبولة من حيث الشكل أو المضمون في مجتمع يدعي سكانه أنهم يلجون قيم وسلوكيات القرن الواحد والعشرين. هذا الشرح الواضح المعالم القابل للاستمرار والنمو، أصبح خارجاً عن آليات التحكم المتعارف عليها، وهو يُهدد بتحويل المجتمع البحريني إلى مكونين متنافرين غير قابلين للتعايش مع بعضهما البعض، ويحمل في أحشائه أنوية الكراهية القابلة للانفجار في أية لحظة، ربما لا يستطيع تحديد وقتها أي من مكونات هذا المجتمع.  

على المستوى السياسي، بدأ الكثير من مؤسسات العمل السياسي، وفي المقدمة منها الجمعيات السياسية، وهي البديلة للأحزاب التقليدية، سوية مع سلطتي المجلس الوطني التشريعية، التي جاء بها المشروع الإصلاحي، يفقد بريقه الذي كان يؤهله لقيادة العمل السياسي في البحرين، وتأهيلها لنقلة سياسية نوعية تتعايش فيها السلطات الثلاث على نحو إيجابي مُثمر. وأدى ذلك إلى ضمور ملحوظ في عضلات العمل السياسي البحريني، بعد أن نشطت في مطلع هذا القرن، عند إطلاق المشروع الإصلاحي. وقاد ذلك إلى ما يشبه الخصومة السياسية بين مكونات العمل السياسي البحريني، بما في ذلك القيم التي تنظم العلاقة بين أطراف القوى المعارضة (بكسر الراء). 

وعلى المستوى الاقتصادي، تواجه البحرين اليوم تحدياً اقتصاديًا بفضل التراجع في أسعار النفط، الأمر الذي حرمها من مصدر رئيس من مصادر الدخل من جانب، وقلص من حجم المساعدات التي كانت تنعم بها من دول نفطية شقيقة وفي مقدمتها السعودية والإمارات والكويت. رافق ذلك استحواذ دول خليجية شقيقة على بعض الأنشطة الاقتصادية، وفي المقدمة منها الحركة المصرفية، التي نعمت بها البحرين، منذ منتصف السبعينات من القرن الماضي. قاد كل ذلك إلى تراجع في الأداء الاقتصادي، بات بحاجة إلى رافعة جديدة تنقله من الوضع الذي بات فيه. 

هذه الصورة التي قد تضع عصابة سوداء فوق أعين من يسيطر على ذهنه موجة التشاؤم والإحباط التي تعم المنطقة العربية. لكن من يقرأ التاريخ من منطلقات إيجابية، ويرى أن حركة المجتمعات الحية، مثل المجتمع البحريني، لا يمكن أن تسير في خط مستقيم لا يعرف الالتواء ولا التراجع، يدرك تمامًا أن هذه المرحلة، والنقطة التي وصل إليها الحراك المُجتمعي في البحرين، كلها تدع للتفاؤل، وتحث على البدء في خطوة على طريق، مهما بدا صعبا وتملؤه التعرجات، لكنه يقود نحو أهداف تسعى مكونات العمل السياسي البحريني المخلصة إلى نيلها. 

والخطوة الأولى على طريق انتشال البحرين من هذا الواقع المحزن، هي اقتناع جميع النشطين السياسيين في تلك المكونات، بصعوبة الوضع وتعقد الظروف، نابذين من خلال ذلك أية نظرة تبسيطية تحاول أن تقفز فوق حاجز الأزمات بطرق بهلوانية لم تعد مقبولة، دع عنك كونها مجدية. فهناك حاجة ماسة إلى نظرة موضوعية بعيدة عن الإغراق في التفاؤل، لكنها بالقدر ذاته ليست أسيرة النظرة السوداوية المُعتمة الغارقة في تشاؤمها الذي يمكن أن يقود البلاد برمتها نحو الإحباط، كخطوة أولى على طريق اليأس. 

تترافق هذه النظرة الموضوعية مع شقيقتها النظرة الصادقة الصافية الصريحة الراغبة في عقد مصالحة وطنية. بعيدة عن التخندق الطائفي، ورافضة للمدخل الفئوي. فأية مصالحة تنطلق من خلفية تقسيمية مصيرها الفشل. بل ربما تساهم في تعزيز حضور وفعل العناصر السلبية التي قادت البلاد نحو الأزمة.  

ويتواءم مع هذين المدخلين، حرص شديد على ما أتى به المشروع الإصلاحي الذي كانت محصلته، كما أشرنا سابقا، تأسيس السلطة التشريعية، والسماح بنشاط الجمعيات السياسية. فكلما جرى تعزيز مكتسبات المشروع الإصلاحي، كلما كانت تربة العمل السياسي أكثر خصوبة، ومن ثم قدرة على معالجة المشكلات الاجتماعية والسياسية، بل وحتى الاقتصادية التي أشير لها أعلاه. 

وفي عبارة مختصرة، هناك اليوم حاجة ماسة إلى مصالحة وطنية بحرينية، حتى والبحرين تمر بهذه الظروف الصعبة المعقدة. فالمصالحة الوطنية لا يمكن أن تخضع نفسها لظروف طارئة. وربما، بخلاف ما يتوهم البعض، تشكل الظروف الصعبة دافعا وطنيا قويا ضاغطا يحث خطى الجميع على تناسي الخلافات، ونبذ الأضغان، والاتجاه نحو هذه المصالحة، لأنها باتت المنقذ الوحيد الممكن من الأزمة التي نتحدث عنها. 

ليست هذه دعوة طوباوية مغرقة في مثالياتها، بقدر ما هي محاولة صادقة لقراءة الواقع البحريني القائم، من أجل الخروج منه، بأقل الخسائر، وفي أسرع وقت ممكن، دون أيّ حرق غير مُبرر للمراحل، لكن وبالقدر ذاته، بعيدا عن الوقوع في براثن اليأس، الذي يحول البلاد برمتها إلى فريسة سهلة للمقولات المحبطة. 

منطق الأحداث وتطورها يؤكد على أنّ أوان المصالحة البحرينية قد آن، وأن قطار فرص حلها سيمر سريعًا، وبسرعة أكبر مما يتوقع العديد من المنخرطين في العمل السياسي البحريني. والتاريخ، كما تعلمنا دروسه لا يرحم الغافلين، ولا يسامح السذج، ولا ينصف الكسالى، ولا يصفح عمن لا يستذكرون دروسه بشكل صحيح ومبدع.