علي بن سالم كفيتان
أشرقت شمسٌ جديدةٌ من عُمق الذاكرة المنسية المشهد من قرية نائية في جبال ظفار تعجُ بالنشاط اليومي الدؤوب، الجد يلقي نظرة على قطيعه من بعيد فتقدم سنه لم يعد يسعفه للقيام بأعمال يومية ولكن البقرة العجوز إذا رأته تطلق خوارها المُتكرر وكانَّها تحييه وهو بدوره وبكلمات هادئة يُصبح عليها بالخير ثم تتقدم حتى تقترب من سيدها وتلعق يديه المملؤة بكرات العلف المخلوطة بالدقيق وحسب رواية الجد فإنّ بقرته المُتقدمة في العمر لم يعد لها أسنان لذلك يلقمها هذه الكرات لسد رمقها وبينهما حب وود لا يفهمه أحد غيرهما.
في الجانب الآخر الأب يحضر نفسه لعملية حليب الأبقار في هذا الموسم الذي يتطلب إدخال القطعان في الزرائب وحلبها في الداخل بسبب انتشار الحشرات والذباب التي تلدغها في الخارج وهي عملية مُضنية ومحفوفة بالتَّعب حيث يتم إحضار العجل إلى أمه ومن ثمَّ إرجاعه إلى حظيرته مجدداً وهو لم يحصل على نصيب كافٍ من الحليب، الأجواء بالداخل رطبة وتختلط فيها رائحة الروث مع أنفاس الأبقار المتكدسة في ذلك المكان الضيق، مهمة الأب هي الحلب والابن جر العجول والأم الإمساك برأس الأبقار المشاكسة أو حراسة باب حظيرة صغار العجول ولا تخلو العملية من مخاطر جمة أقلها رفسة من بقرة سارحة أو نطحة من ثور غاضب على ما يجري في مملكته، ولكم أن تتصوروا جودة الحليب المُنتج من هذه المغامرة داخل تلك المغارة المظلمة.
في ذلك الصباح كان على محاد الابن المساعدة في الإمساك ببقرتين والذهاب بهما مع أخوه الأكبر إلى ميزان الأبقار وهي عملية بيع تدعمها الحكومة حيث يتم وزن البقرة ومن ثم تثمينها وكم يكون المالك سعيدًا باستلام الشيك الأخضر الذي يتوسطه شعار وزارة الزراعة والثروة الحيوانية فحينها كانت الوزارة تقود دور الريادة في دعم الرعاة، معركة تحميل الأبقار في السيارة ومن ثم مرافقتها والخوف من سقوطها أو اختناقها أثناء النقل عملية مضنية ومن ثم إنزالها في بحر من الأبقار وصف طويل من سيارات البيك اب المحملة بذات البضاعة، الكل يدور حول حلبة الميزان ليعرف وزن بقرته التي يُسجلها الطبيب البيطري السوداني وبجانبه رجل باكستاني قوي البنية يعمل بكل تفانٍ.
عقب تلك الرحلة يتوجه الرعاة بشيكاتهم لبنك عُمان العربي لاستلام قيمة مواشيهم وهناك تجد صفًا طويلاً لا يخلو من عوج فبعض الشيوبة يجلسون القرفصاء على الأرض والآخرون متكئون على عصيهم والبعض منزعج من طول الانتظار ويترجى الآخرين لكي يسمحوا له بالتقدم لكي يحصل على قيمة الشيك البقري المنتظر، ولا زلت أتذكر تذمر الموظفين من قدوم الريفيين بكثرة للبنك وطلبهم للشاي والماء بشكل مُتكرر حتى خصصوا لهم موقعا مميزا مكتوب عليه بالخط العريض استلام شيكات ميزان الأبقار وفي أسفل اللوحة مكتوب بخط صغير ممنوع الشاي والماء ولكن هذا لم يمنع ملاك المواشي من جلب ترامس الشاي وكراتين الماء وأذكر أنّ الموظفين أصبحوا زبائن ترمس الرعاة الكرماء.
يقول محاد استلمنا قيمة البقرتين ستمائة ريال عُماني إنه مبلغ مجزٍ مقارنة بالبقرتين التي جلبناهما وقد أوصى الوالد بأن احصل على عشرين ريالا من الصفقة مُقابل خدماتي طوال ذلك النهار وكم كنت سعيدًا باستلام المبلغ الذي تجولت به في سوق الحافة حيث كل شيء المطاعم والحلاقين ودكاكين الملابس والأحذية والألبومات الغنائية.
في ذلك المساء أقبل محاد بلبس جديد ونعال أسود جميل ومصر ظفاري مُطرز كانت إحدى البقرتين لأمه وعند الوصول جلس محاد على الجدار وبقرة الجد العجوز تدور حوله والأم أتت من الخلف تسأل عن قيمة بقرتها وفي هذه اللحظات محاد يعطي أمه ثلاثمائة ريال إلى الخلف من غير ما ينظر إليها وفجأة التهمتها بقرة الجد وصرخت الأم فقام محاد بخنق البقرة لكي لا يذهب المبلغ إلى موقع أبعد وأدخل يده في فمها ليستخرج المبلغ الممضوغ في ظل حسرة أمه.
استودعتكم الله موعدنا يتجدد معكم بإذن الله.
حفظ الله عمان وحفظ جلالة السلطان.
alikafetan@gmail.com