وضع النقاط فوق الحروف

 

 

د. عبدالله باحجاج

الوطن اليوم بحاجة لفكر راشد وطرح حصيف، واجتهاد وطني يُقدِّم المصلحة الكلية المتوازنة بحب ودون استفزاز، وهو اليوم كذلك يحتاج لمواطنين يستلهمون العبر من جراح ماضينا قبل السبعين، ومن مأساة القتل والتدمير التي تحدث في محيطنا الإقليمي، كل لحظة أمن واستقرار ينعم بها الوطن من أقصاه إلى أقصاه، يجب أن تظل دائمة، ونحمد الله عليها ليلا ونهارا، ونجعلها في مقدمة كل حساباتنا في هذه المرحلة، والكلام موجه للحكومة والمواطنين على السواء.

وكل حالة تجاذب أو حالة احتقان هى ترقُّب وانتظار للمجهول يتأثر بها المواطن العادي والسياسي على السواء، لكنَّ الرهانات التي نعول عليها في مواجهة التحديات، لحمة الدم وعقيدة الانتماء للأرض، والشعور العميق بالوطنية، وكلها عوامل مشتركة بين جميع أطياف المجتمع؛ لذلك فهى تشكل ضمانات لعدم مغادرة الوطنية أو التخلى عنها مهما كانت حدة التجاذبات والاحتقانات؛ فالوطن مقدس، ووطنيتنا ممارسة للمقدس، قد نختلف على الممارسة، لكننا لن نختلف عن الوطن، وضرورات أمنه واستقراره، وحتى في حالة الاختلاف الراهنة، واحتدام التجاذبات عبر وسائل التواصل الاجتماعي، يظل الوطن مقدسا، وأمنه واستقراره لهما نفس القدسية بالتبعية، فما قيمة محتوى مكاني إذا ما سلب منه أمنه واستقراره؟ وما قيمة الحصول على حق إذا سلب منا نعمة الاستقرار؟ هذه النقاط كان لزاما علينا وضعها فوق حروف تتلاطم بها التفسيرات والتأويلات الداخلية والخارجية بسبب تداعيات الازمة النفطية، وطرق معالجتها من قبل الحكومة وهى مرشحة أن تأخذ مسارات أكثر حدية خاصة إذا ما تصاعدت سياسات الحكومة المالية والضريبية. ومن هنا يمكن القول: إنَّ الثابت المقدَّس سيظل الوطن، بسلطته السياسية العليا وديموغرافيته وأرضه، ما عداها يظل من المتغيرات المتوقعة في أية لحظة، وفي تجربة عام 2011، أفضل ممارسة يمكن أن نبني عليها وعينا لفهم الثابت والمتغير في ظل الأزمات، وهى شارحة ذاتها، وليست في حاجة لاستنطاق بصوت مرتفع ولا حتى بالإشارة العابرة.

لكن، لماذا نستدعيها في لحظة وضع النقاط فوق الحروف؟ للزوم الوعي بها، وحتى تكون ممارسة حق الخلاف أو الاختلاف على سياسات الحكومة المالية والضريبية محكومة بضوابط الوعي بالثابت والمتغير حتى لا تمس الممارسة الثابت المقدس، وتدخلنا في اشكاليات مع الامن والاستقرار التي هى خطوط حمراء اجتماعيا قبل أن تكون مفروضة سياسيا وأمنيا، ولماذا تستدعيه كذلك؟ وذلك حتى نرسخ حق الخلاف والاختلاف للمواطن في السياسات التي تؤثر على حياته ومستقبل أبنائه، وفي ظل تحديدنا للثابت المقدس، فإننا ينبغي أن نقر بما يشعر به المجتمع في الإفراط في تحميله ما لا يتحمل من تصعيد في الأعباء المالية عليه على خلفية الأزمة النفطية، دون الاعتداد الحكومي بارتفاع الأسعار، وبالفارق الكبير والملوس بين أسعار النفط العماني التي تحوم حول 55 دولارا للبرميل بعدما هوى في منتصف عام 2014 قرب 28 دولارا للبرميل، فكيف للمجتمع أن يقتنع باستمرارية الضغط عليه لوحده؟ كيف له أن يقبل وبسهولة أن تعامله الحكومة في استهلاكه للوقود داخليا، وكأنه في سوق النفط العالمية؟ وكيف تتجاهل الحكومة الأفق الآمن المقبلين عليه عندما تبدأ الاكتشافات الغازية الكبيرة في التصدير قريبا؟ ولماذا لم نعد نسمع ضجة التنويع الاقتصادي؟ كيف.. وكيف..؟ تلكم تساؤلات تقربنا كثيرا لفهم النفسيات الاجتماعية التي ترفض الآن وبقوة تسعيرة فبراير المرتفعة جدا، والتي كان وراءها استفزازات من فاعل حكومي جديدة وقديمة نسبيا، فلماذا نستفز المجتمع بين الفينة والأخرى؟ ومن ينبغي أن يتحمل المسؤولية المواطن أم المسؤول؟

التساؤل الأخير، يفتح لنا التساؤل عن دور اللجنة الخاصة التي شكلت لإدارة الأزمة النفطية؟ وأين نتائجها؟ عودة التجاذبات، وفقدان الثقة كاملة بين المجتمع وفاعلين سلطويين، هى أهم الدلائل على غيابها، فالساحة تبدو فارغة عن أية إدارة وطنية ذات أبعاد شمولية، ربما تكون نتائجها رقمية خالصة، وقد نراها في رفع التسعيرة والدعم والرسوم وقريبا الضريبة المضافة.. وهذه بعيدة كل البعد عن الإدارة الوطنية الشاملة في بلد كبلادنا التي يكون دائما وراء كل رقم مالي مجرد انعكاسات اجتماعية، فلماذا لم تعتد بها؟ ربما قنعها البعض بأنَّ البلاد في مرحلة انتقالية، وأنَّ الأصوات سترتفع قليلا ومن ثم ستهدأ، وهذه نظرة من زاوية ضيقة جدا، تذكرنا بما كان سائدا عام 2011، عندما كان المواطنين وخاصة الشباب منهم ينظرون لتردي أوضاعهم وكأنها معركة بقاء أو وجود حتمي، بينما كانت النظرة الضيقة ترى أنها مجرد أصوات وستختفي سريعا، وكلنا شوهد عيان على تلك المرحلة، وكيف تمكنت سلطتنا السياسية العليا من إخمادها من منظور الثابت والمتغير، فكان التغيير الوزاري الكبير، والإصلاحات التشريعية والقضائية والسياسية التي تحتاج الآن إلى تقييم تطبيقاتها بعد مرور سبع سنوات تقريبا، ومن هذا الحقائق، نخاطب الوعي العام بتبني خطاب البناء لا الهدم خاصة المواقع الإلكترونية؛ لأن الرِّهان سيكون لصالح الثابت وليس المتغير؛ لذلك نقترح رفع الشعار "الوطن أغلى.. وفوق كل الاعتبارات"، بل إنه شعار جدير بأن تتبناه كل وسائل الإعلام والاتصال في بلادنا لظروف المرحلة الوطنية ببعدها الخارجي؛ لأننا في مرحلة الخلاف والاختلاف، والقادم أشد، فعندما نختلف ينبغي أن تكون مظلته قيم الوطنية وألحانها أنشودتيْ الأمن والاستقرار، ومن منبرنا هذا، نُطلق حملة "الوطن أغلى" عبر وضع المصلحة الوطنية للسلطنة والعُمانيين فوق كل اعتبار بما فيها المصالح الفئوية والشخصية، وفوق الأشخاص إذا كانت إدارتهم لهذه المرحلة لا ترتقي إلى مستوى كل الاستحقاقات الوطنية.

ورغم مطالبتنا بالعقلانية الوطنية، إلا أنَّ السلطة التنفيذية تظل اليوم هي المسؤولة عن إدارة البلد، وبيدها صناعة الفعل، ولكل فعل رد فعل.. ومن بيده الفعل يستطيع أن يتحكم في ردود الفعل، فبعض الأفعال الصادرة منها حتى الآن تثير ردود فعل غاضبة، وصمتها فعل.. والقادم مؤشراته أخطر، دعواتنا تفعيل لجنة إدارة الأزمة فورا، وتكون هى المسؤولة عن توجهات البلاد المالية والاقتصادية والاجتماعية والخطابات الإعلامية الموجه للمواطنين، ولن ننسى، ولا يجب أن ننسى، أنَّ اقتصادنا الريعي قد صنع عقلية اجتماعية ريعية، بل مجتمعا ريعيا، فكيف تريد الحكومة الآن القفز فوق هذه الحقيقة، وكأنها تدير قنوات فضائية، بالريموت كنترول؟!