العرب: حالة تاريخية استثنائية تتطلب معالجة استثنائية 1 / 2

 

 

عبيدلي العبيدلي 

انشغل العرب، وما يزالون، بمُتابعة، ما اعتبروه تحولات جوهرية غير مسبوقة في نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة التي أزاحت الديمقراطيين، وجلبت الجمهوريين، وجسدتها التصريحات التي سبقت فوز دونالد ترامب، والإجراءات والسياسيات التي أقدم عليها منذ وصوله إلى البيت الأبيض. اعتبر معظم العرب، من هم في الحكم، أو خارج مُحيطات الدوائر الحاكمة، أنَّ ما يجري في واشنطن ظاهرة خطيرة تنذر بتغييرات هيكلية في بنية السياسة الخارجية الأمريكية، وتنذر بتحولات تمس صرح العلاقات العربية -الأمريكية، وتُهدد بتداعيه. في خضم ذلك تناسى العرب، وربما غابت عن أذهانهم ما تعيشه المنطقة العربية من حالة تاريخية استثنائية، هي الأخرى، غير مسبوقة في تاريخها الحديث والمُعاصر. هذه الحالة مُختلفة تماماً عن التحولات التي عرفتها، بتفاوت، البلدان العربية، وجعلت كل منها يختلف عن الآخر من حيث التطور السياسي والاقتصادي. لقد كانت التغييرات التي مرت بالمنطقة خلال السبعين سنة الماضية جوهرية، لكنها لم تتمتع بالطبيعة الاستثنائية التي نتحدث عنها اليوم، والتي يُمكن حصر الأهم منها - التحولات الأولى غير الراهنة- في النقاط التالية: 

  • احتلال العدو الصهيوني للأراضي الفلسطينية، في العام 1948، واقتطاع عضو في غاية الأهمية على المُستويين السياسي والديني من جسد الأمة العربية، واحتلال إيران، بعد ما يزيد عن عشرين سنة مجموعة من الجزر الإماراتية ما تزال تحت حكم الاحتلال الإيراني. اختلاف الاقتطاع والتمايز بين من قام بهما لا ينفي جوهر العملية من كونها استلاب رقعة جغرافية من الحوض السياسي العربي، لطرف أجنبي مهما تباينت هوامش التقاطع الإيجابي، ومساحات الاختلافات السلبية بين دول ذلك الحوض والطرف المُحتل. والأمر ذاته ينطبق على طبيعة الدوافع التي دفعت إلى ذلك الاحتلال، وخلفيته التي تسكن ذهنية المحتل والأهداف التي تقف وراء الاحتلال، والمشاريع التي تمخضت عنه.  
  • بروز تكتلات عربية تنسيقية من أبرزها جامعة الدول العربية، واتحاد دول مجلس التعاون الخليجي. ليس هنا مجال للمقارنة بين هذين المشروعين، ولا تقويم أي منهما، بقدر ما هو إشارة إلى نجاح هذين المشروعين وصمودهما، مُقابل فشل مشروعات توحيدية أخرى بين دول عربية لعل أبرز أمثلتها هو انهيار دولة الوحدة العربية بين مصر وسوريا، وتعثر مشروعات عربية توحيدية أخرى مثل الاتحاد العربي، والاتحاد المغاربي.   
  • انقلابات عسكرية قامت بها مجموعة من الضباط من رتب مُختلفة، أطاحت بأنظمة ملكية، كما شهدنا في مصر والعراق وليبيا ودول أخرى لم تكن ملكية. أخفق البعض منها ونجح البعض الآخر، لكنها جميعاً انتقلت من النظام الملكي إلى النظام الجمهوري. ولسنا هنا بصدد تقويم ذلك التحول، شكلياً كان ذلك التحول أم جوهرياً. انتقلت تلك الظاهرة بتدرج من دولة لأخرى، لكنها لم تحدث على نحو جماعي، كما أنها استغرقت فترات زمنية ليست بالقصيرة نسبيًا. ترافق ذلك التحول السياسي، مع دعوات للتحول الاقتصادي من النمط الرأسمالي إلى الاشتراكي. تمخض عن كل ذلك أنظمة جمهورية كانت شمولية على المستويين السياسي والاقتصادي. 
  • محاولات التمرد على النظام الدولي القائم خلال تلك الفترة المعروفة بمرحلة الحرب الباردة بين المُعسكرين الغربي بقيادة الولايات المتحدة والشرقي تحت النفوذ السوفيتي، تجسدت فيما أصبح يعرف باسم دول العالم الثالث التي عبرت عنها كتل مثل دول عدم الانحياز، التي مهدت لها لقاءات باندونغ. وكان العرب، تحت قيادة أكبر دولهم مصر تقود ذلك "الخروج" على نفوذ كتلتي الحرب الباردة. 
  • ثورات شعبية نجحت في إخراج الاستعمار البريطاني من عدن وطرد المحتل الفرنسي من بلدان شمال إفريقيا. اختارت، هي الأخرى، السير في ركاب التحولات التي أخذت بها تلك الانقلابات التي سبقتها في بلدان عربية أخرى. 
  • انحيازات نوعية في طبيعة العلاقات الدولية العربية تمثلت في بناء علاقات عسكرية مع المعسكر الشرقي التابع لنفوذ الكتلة السوفيتية، على حساب العلاقة التقليدية القائمة المنحصرة في علاقات متميزة مع الدول الغربية. وشمل ذلك صفقات سلاح، كانت حينها تحديًا سافرًا للنفوذ الغربي في المنطقة العربية، التي كانت تعتمد في بناء مؤسساتها العسكرية، نظامًا، وتدريبا وتسليحاً على الدول الغربية. 
  • كان ذلك على المستوى السياسي المحض، قابلته تحولات نوعية على المستوى الاقتصادي كان الأهم بينها اكتشاف النفط أولاً، والارتفاعات المتلاحقة في أسعاره، وبشكل خيالي ثانيًا ولد ذلك ثروة نقدية سائلة متنامية لدى مجموعة من الدول العربية امتدت من البحرين جنوباً شرقاً حتى الجزائر شمالاً غربا. أفرزت هذه الثروة التي تكدست في فترة زمنية قصيرة بمقاييس التراكم النقدي للثروات، ظواهر اجتماعية وسياسية كانت لها آثارها في طبيعة العلاقات التي نظمت الروابط بين البلدان العربية ذاتها على المستوى الخارجي، وبين الأنظمة التي نعمت بالثروات النفطية وسكان دولها على المستوى الداخلي. 

ساعدت هذه التحولات على رسم الخارطة السياسية والبنية الاجتماعية لحوض البلدان العربية. لكنها، رغم التحولات التي رافقتها على الصعيد العربي العام، وعلى مستوى كل دولة على حدة، لم تبلغ التغيرات التي عصفت بالمنطقة العربية خلال السنوات العشر الماضية، والتي ما يزال الجدل بشأنها محتدماً بين من يعتبرها ظاهرة طبيعية ولدتها التطورات التي عرفتها المنطقة العربية خلال السبعين سنة الماضية، في حين أرجعها البعض إلى التدخلات الأجنبية العالمية والإقليمية، ومن ثم ربطها عضوياً بتلك المشاريع، ورفض أي تحليل ينطلق من جذورها المحلية المحضة. لكن ذهب فريق ثالث إلى محاولة تلمس المعادلة التي تمزج بين الظروف المحلية، وتفاعلها مع المشروعات الإقليمية والدولية، وحاول أن يرسم حدود وثقل كل منهما في إفراز الحالة الاستثنائية التي ترم بها المنطقة العربية منذ ما يزيد على الأعوام الستة، والتي تختلف جوهرًا وتأثيراً عن التحولات التي أشرنا لها أعلاه.